دمشق مجددا.. لا طلاق مع طهران وهرولة ما بين الحرب والسلام!

TT

كل هذا الذي يجري الآن، ويعتبره البعض الخطوة الأولى على طريق التفاهم مع الولايات المتحدة وبالتالي مع إسرائيل على أهم ملفات هذه المنطقة العالقة، ينظر إليه بعض المتابعين عن كثب على أنه تحضيرٌ من قبل سوريا أولاً وإيران ثانياً لملفات ما بعد هذه الإدارة الأميركية حيث ترى دمشق وتتفق معها طهران على أنه لا تجوز المراهنة على إدارة بدأت تحزم حقائبها للرحيل عن البيت الأبيض وإخلائه لتحل فيه الإدارة الجديدة التي ستحدد الانتخابات الرئاسية المقبلة ما إذا ستكون جمهورية أم ديموقراطية. إن هذه المرونة الزائدة التي تبديها دمشق والتي تبديها أيضاً إيران، ولكن بحماس أقل، يجب ألا تُفهم على أنها تحول جديٌّ قد يغري الرئيس الأميركي جورج بوش بالتباهي بأنه قبل ان يرحل عن البيت الأبيض، بعد ولايتين متعاقبتين، حقق إنجازات إستراتيجية لم يحققها غيره تتمثل، بالإضافة الى إسقاط صدام حسين وتدمير نظامه وإسقاط نظام «طالبان» في أفغانستان واستيعاب كوريا الشمالية، بإنجاز كل هذه الخطوات لاستيعاب سوريا التي كانت تصنف على أنها إحدى الدول «المارقة» وتطويق إيران وعزلها تمهيداً لاستيعابها وانتزاع ملف القدرات النووية من يدها.

وهنا وللمرة الثانية والثالثة.. والألف فإن أي مراهنة على إمكانية تحطيم التحالف الإيراني ـ السوري أقل ما يقال فيها أنها «تغميس خارج الصحن» فواقع الحال هو غير هذه التصورات والتقديرات وهو ان هناك تفاهماً إيرانياً ـ سورياً على ضرورة استخدام حنكة معاوية بن أبي سفيان، المباح دمه حتى بعد أكثر من ألف عام، القائلة: «والله لو أن بيني وبين الناس شعرة لما قطعتها فإن هم شدوها أرخيتها وإن هم أرخوها شددتها» وهكذا فإن كل ما في الأمر أنه يتم استخدام «التَقية» استخداماً عبقرياً للحؤول دون الصِّدام الذي يجري الحديث عنه وكأنه بات خياراً لا خيار غيره وكي تمرَّ هذه الشهور المقبلة القليلة على خير وعلى أمل ان يرحل الجمهوريون عن البيت الأبيض ليحل مكانهم الديموقراطيون بقيادة باراك أوباما الذي يبدو ان الرهان عليه يتجاوز السوريين الى الإيرانيين الذين كانوا قد راهنوا ذات يوم على رونالد ريغان ومنحوه أوراق إطلاق سراح محتجزي السفارة الأميركية في طهران ليهزم الديموقراطي جيمي كارتر تلك الهزيمة المنكرة الشنيعة.

قد يكون هناك اختلافٌ وليس خلافاً بين دمشق وطهران بالنسبة لبعض التكتيكات، وهذا هو الذي جعل رئيس تحرير صحيفة «كيهان» حسين شريعتي الذي يوصف بأنه أحد مساعدي السيد علي خامنئي يوجه للسوريين الانتقادات التي وجهها إليهم اعتراضا على المفاوضات «غير المباشرة»، لكن ما يجب ان يدركه الذين يتعاطون مع هذه المسألة على طريقة «التغميس خارج الصحن» هو ان هناك توزيع أدوارٍ وأنه لا خلاف إطلاقاً على التصورات الإستراتيجية المتعلقة بالشرق الأوسط والإقليم كله.

قبل هذه المرونة، التي تمثلت في المفاوضات «غير المباشرة» وفي تسهيل مهمة وسطاء الخير الذين اجترحوا معجزة «الدوحة» ووضعوا لبنان على بداية تهدئة لا يمكن ان تكون إنْ بقيت الأمور تسير على هذا النحو وبهذه الطريقة إلا مؤقتة وفي ان ابتسامات منوشهر متقي ازدادت انفراجا عشية لقاء جنيف يوم السبت الماضي وخلاله وبعده، كان حلف «فسطاط الممانعة»، الذي يبدو ان تغييب اسمه هذا يأتي في إطار تنشيط مبدأ «التقية»، قد شعر أنه حقق انتصارات أساسية في العراق وفي لبنان وفي فلسطين وأنه لاستثمار هذه «الانتصارات» !! لا بد من إيقاف الهجوم المستمر منذ زهاء خمسة أعوام والجنوح نحو التهدئة ونحو المزيد من المرونة حتى رحيل هذه الإدارة الأميركية عن البيت الأبيض.

لا يمكن ان يكون كل هذا التوجه نحو المرونة والتهدئة بدون تفاهم كامل بين سوريا وإيران على ضرورة تجميد التصعيد السابق وإبداء الاستعداد لتقديم تنازلات، هي تنازلات وهمية على أي حال، لانتزاع كل المبررات من يد جورج بوش حتى لا يضرب ضربته في اللحظات الأخيرة قبل ان يغادر البيت الأبيض وحتى تكون المرحلة المتبقية حتى الانتخابات الرئاسية المقبلة بالنسبة لطهران ودمشق مرحلة التقاط أنفاس ومرحلة استعداد لاستقبال الإدارة الأميركية الجديدة بملفات جاهزة ومتكاملة إن بالنسبة لمشكلة القدرات النووية الإيرانية وإن بالنسبة لعملية السلام في الشرق الأوسط وأيضاً إن بالنسبة للمعادلة السياسية المفترضة في الإقليم كله. ولهذا ولأن هذا هو واقع الحال بين سوريا وإيران فإن قناعات الإسرائيليين باتت تميل، ورغم المفاوضات «غير المباشرة» التي قد تنقلب الى «مباشرة» في أي لحظة، الى ان دمشق لن تفك علاقاتها بطهران مهما عُرض عليها من إغراءات وأن كل هذه المرونة التي تبديها هي من قبيل التلاعب بعامل الوقت وتحاشي المواجهة التي يجري الحديث عنها لعل الانتخابات الرئاسية المقبلة تأتي بالديموقراطيين مجدداً الى البيت الأبيض وتبعد الجمهوريين عنه بعد انتهاء هذه الولاية الحالية. الآن بدأت الصحف الإسرائيلية، التي تعكس توجهـات الرأي العام الإسرائيلي في العادة، بالترويج للقناعة المستجدة القائلة ان سوريا تتحاشى الحرب فعلاً لكنها لا تريد السلام وأن كل ما تريده في هذه المرحلة هو ان تستمر المفاوضات ولو لستة شهور مقبلة سواءً بقيت غير مباشرة أم أصبحت مباشرة وهو ان تخترق العزلة السابقة وتخرج منها وأن تستقبل الإدارة الأميركية الجديدة وهي أكثر لياقة وأكثر قبولاً من قبل محيطها الإقليمي ومن قبل المجموعة الأوروبية.

والواضح رغم ان المفاوضات غير المباشرة لم تحقق أي تقدم فعلي، رغم التسريبات السورية التي ترسم صورة غير هذه الصورة المتشائمة، أن دمشق ستبقى تصر على إستمرارها وستبقى تصر على أنها ستنتقل قريباً لتصبح» مباشرة» والسبب هو ان البديل عن هذه المفاوضات هو اللجوء الى التصعيد حتى حدود المواجهة والحرب وهذا لا تريده لا القيادة السورية ولا أولميرت وأيضاً لا يريده الإيرانيون الذين يتجنبون الإنشغال بأي عارض جانبي قد يلهيهم عن مواصلة لعبة القط والفأر والضحك على ذقون الأميركيين والإسرائيليين والأوروبيين الى ان يمتلكوا السلاح النووي ويضعوا العالم كله أمام الامر الواقع. لو ان دمشق على مفترق طرق مع طهران فلما كان هذا التوافق في لبنان ولما كان هناك اتفاق دوحة ولما أدار الرئيس بشار الأسد، خلال مؤتمر باريس الأخير، ظهره لرئيس الوزراء الإسرائيلي وتجنب مصافحته، ولو من قبيل المجاملة البروتوكولية، ولكان بذل جهوداً فعلية وجدية للتصالح مع مصر والمملكة العربية السعودية ولما أعلن وزير خارجيته وليد المعلم الشروط المسبقة التي أعلنها في العاصمة الفرنسية لإقامة علاقات دبلوماسية مع لبنان وتبادل السفراء مع بيروت.

يجب التدقيق في الأمور جيداً قبل الحديث عن انتصارات عظيمة تحققها سوريا وقبل الترويج لطلاقٍ لم يحصل إطلاقاً وهو لن يحصل بين دمشق وطهران فكل هذا الذي يجري من المفاوضات غير المباشرة، التي قد تصبح مباشرة في أي لحظة، الى استعراضات باريس التي تشبه مهرجانات عرض الأزياء الى جلوس مساعد وزيرة الخارجية الأميركية وليم بيرنز مقابل المفاوض الإيراني سعيد جليلي في لقاء جنيف الأخير، هو مجرد لعبٍ بالأوراق لغاية التلاعب بعامل الوقت لتجميد الأمور على ما هي عليه .