«مقبرة الأرقام» تغير المعادلات اللبنانية

TT

لم يكن بمقدور الفرقاء السياسيين اللبنانيين إلا أن يتوحدوا أمام مشهد الأسرى الخمسة المحررين و197 رفاتاً لشهداء كتبوا تاريخ لبنان لا بل تاريخ العرب بدمائهم. فجأة كان عليهم جميعهم، أصدقاء وأعداء، ولو من باب النفاق «الاضطراري»، ان يتزاحموا صفاً واحداً على مدرج مطار بيروت لأداء تحية إكبار للعائدين. وربما اضطر الزعيم الذي كان يقذف حزب الله بأشنع التهم بالأمس أن يقبّل المقاوم المحرر ويأخذه بالأحضان إن اقتضى الأمر. فالعائدون على يد المقاومة، أحياء او أمواتاً، وببركات سلاحها ليسوا من طائفة واحدة أو ملة بعينها، وامتدادهم العائلي والجغرافي يكاد يغطي الطوائف والأحزاب، والخريطة اللبنانية من قرية البيرة في عكار شمالاً إلى بلدة مارون الراس جنوباً. والناخبون الذين سيذهبون إلى صناديق الاقتراع بعد أشهر، لن يتسامحوا مع زعيم يدير ظهره لشهادة مشرّفة لابن بلدتهم أو عودة مظفرة لابن ملتهم. هكذا كان على لبنان كله ان يقف وقفة رجل واحد، متعالياً على كل خلاف، ويهتف بصوت موحّد تحية للمقاومة.

لكن ليس كل ما التقطته الكاميرات كان كذباً سياسياً. فقد استطاع حزب الله ان يزلزل مشاعر الكثير من اللبنانيين، عندما ضرب في صفقة التبادل هذه ـ بشكلها ومضمونها ـ عصافير عديدة بحجر واحد، ولعب على أوتار شديدة الحساسية، واستعمل الرموز ليقوي من وقع الحدث، وحضّر لإخراج فني لاستقبال المحررين، جعله شهوة للناظرين. ولم يوفر أعلاماً أو سجاداً أحمر، او فرقاً موسيقية أو منشدين أو حتى طائرات هيلكوبتر يمكن ان تشارك في الاستقبال إلا وسعى لاستخدامها. وبدءاً بتسليم جثتي الجنديين الإسرائيليين عندما وقف وفيق صفا، رئيس لجنة الارتباط والتنسيق في حزب الله أمام الكاميرا وقال «الآن نكشف عن مصير الجنديين»، ثم فتحت السيارة وانزل منها تابوتان أسودان، ليعرف الجميع ان الجنديين ليسا على قيد الحياة. من لحظتها بدا كم ان تفاصيل النهار كانت مدروسة بعناية. اللباس العسكري الذي ارتداه الأسرى المحررون، لم يكن من دون وقع على المستقبلين، لفّ التوابيت بالأعلام اللبنانية والفلسطينية، طباعة صور الشهداء، ظهور حسن نصر الله للحظات لتقبيل الأسرى رغم الخطر الشديد الذي عرّض نفسه له، لجان فحص الحمض النووي، خلية النحل التي استقبلت الجثامين واحتضنتهم وفرزتهم بسرعة مذهلة. عمل جبّار بكل المقاييس يحتاج مؤسسات دولة، لكن حزب الله كان يعرف انه يسجل بنجاحه هذا علامات كان يحتاجها داخلياً وعربياً، بعد علو نبرة الطائفية السنية ـ الشيعية. فبين الجثامين هناك سوريون وتوانسة واردنيان وعراقي ومغربي وكويتي ونيجيري ايضاً. وليس غريباً في لبنان اليوم ان تسمع بعض الحانقين والغاضبين مما ارتكبه حزب الله في بيروت، يتحدثون عن جوانب حسنة للحزب لا بد من تقديرها، وعلمانيون كانوا يرون فيه حزباً طائفياً خطيراً، يهزون رؤوسهم إعجاباً وامتناناً لإفراجه عن زملاء ورفاق في النضال اليساري العتيق، عادوا لهم ولو عظاماً ورفاتا. واللافت في كل ما قيل بعد عملية التبادل التي يحق لإسرائيل ان تنفجر بسببها غيظاً، هو ان الكلام على سلاح حزب الله بدأ يأخذ منحى مختلفاً، والمقاومة لم تعد خطراً أو «بعبعا» يستفز إسرائيل ويجلب للبنان الدمار. فمع وصول الأسرى إلى ارض المطار قال رئيس الجمهورية ميشال سليمان انه لن يتخلى عن تحرير مزارع شبعا بشتى الطرق. والرئيس الذي سيرعى الحوار الوطني حول سلاح المقاومة يشي كلامه سلفاً ان هذا السلاح ما يزال ضرورياً ولا يجب التخلي عنه. ووليد جنبلاط الذي كان منذ مدة قصيرة أحد صقور 14 آذار، صفق للأسير المحرر سمير القنطار حين ذكّره ان والده كمال جنبلاط عندما اسسّ «الحزب التقدمي الإشتراكي» وضع على جبين كلّ إنسان جملة واحدة: «من يمدّ يده على سلاح المقاومة، الحزب الإشتراكي يجب أن يقطعها». وهي الجملة ذاتها التي أخذت على حسن نصر الله حين نطق بها ذات مرة. أما سمير القنطار، هذا الذي قضى عمره سجناً وألماً، وذهب فدائياً علمانياً ليعود ولا يبدأ كلامه إلا بالبسملة، ولا يجد من يخرجه من مؤبداته الخمس ويدافع عن حريته إلا حزباً دينياً متهماً بالتطرف، فهذه مسألة تستحق وحدهاً أطروحة حول التحولات العربية. هذه التحولات التي نكأتها رفات الشهداء العائدة من مقبرة الارقام في إسرائيل، وبات المتطرفون السنة في لبنان وحتى المعتدلون منهم ومعهم علمانيون ـ بعد مشهد الجنازات الجماعية المؤثرة ـ لا يسألون عن موعد تجريد حزب الله من سلاحه، وكأنما هي اسطوانة انتهت صلاحيتها وصار الكلام في غالبيته يدور حول تطوير مفهوم المقاومة لتكون وطنية ومستقلة عن الحسابات الإقليمية. وربما ان ما ورد في افتتاحية «ملحق النهار الثقافي» الذي شكل منذ اغتيال الشهيد رفيق الحريري منبراً فكرياً أميناً لفريق 14 آذار ما يمكن ان يفهمنا التغيرات اللبنانية حيث نقرأ أن يوم تحرير الأسرى شكل «مشهداً للكرامة الوطنية» وبهذه المناسبة: «لبنان يجب ان لا يكون «ساحة» يستخدمها من يريد قتال الاحتلال الإسرائيلي بالواسطة، بل يجب ان يبقى طليعة المقاومة في العالم العربي، وأرض النهضة والحرية والنضال من اجل عالم عربي يملك قراره ويصنع حريته وينتصر على طغاته». اي ان الموضوع لم يعد استعادة مزارع شبعا وإنهاء المقاومة، بل بناء نموذج لبناني وطني مقاوم بمقدوره ان يحتضن كل المواطنين. وطرح حزب الله ليس مختلفاً في عموميته عن هذا الذي نسمعه من مناضلي الأمس ذوي الصبغة العلمانية، إلا ان الشيطان يكمن في التفاصيل.

بمقدورنا ان نتحدث عن تحولات إقليمية غذت هذا النبض الجديد بين اللبنانيين، ومفاوضات إسرائيلية ـ سورية واتصالات أخرى إيرانية ـ أميركية، وهذا كله مفهوم ومعروف، لكن الإصغاء لضمير الإنسان العربي، قد يدلل على مؤشرات اصدق كثيراً من الخرائط الاستراتيجية التي يرسمها المحللون، ويحيكها السياسيون، وتنقلب عليها الشعوب، لترسم خرائطها الخاصة. لقد اكتشف اللبنانيون انهم كانوا مقاومين وما يزالون كذلك، لكنهم يبحثون عن صيغة على مقاسهم، وهذا قد يستغرق عمراً او أعماراً، أو مزيداً من الرفات والمؤبدات وقناطير مقنطرة من وزن قنطار.

[email protected]