الرجل العنكبوت في طهران

TT

«الصورة تساوي ألف كلمة!» هذا هو المثل الذي اخترعه مصور أميركي في العشرينات من القرن الماضي. وعلى الرغم من أن الأمثال لا تكون صحيحة في أحيان كثيرة، إلا أنها تكون كذلك في بعضها الآخر. وخير مثال على ذلك تلك الصورة للفتاة الأفغانية الصغيرة التي نشرت عام 1990 وعيناها الخضراوان تمتلئان بالخوف الذي يجسد عقدين من الحرب والجوع.

ومع ذلك، فإننا في بعض الأحيان، نحتاج إلى الكلمات لنعبر عن المعاني الخفية في الصور. ففي أحيان كثيرة، تخبئ الصور أكثر مما تعبّر. ولهذا السبب فإن بعض المحررين يشعرون بالأهمية الكبرى لفن كتابة التعليقات على الصور، مثله مثل فن كتابة العناوين الرئيسية في الصحف.

وفي يوم السبت الماضي الموافق 19 من يوليو 2008، نشرت صحيفة «الشرق الأوسط» في صدر صفحتها الأولى صورة تعكس رؤية عميقة وربما تكون غير مقصودة للمزاج السياسي الحالي للنظام الخوميني في إيران.

وقد التقطت هذه الصورة أثناء صلاة الجمعة في حرم جامعة طهران، وهو حدث سياسي أسبوعي هام في العاصمة الإيرانية. وعادة ما يحضر هذا الجمع نحو 20.000 شخص ويستمر نحو ثلاث ساعات، تخصص منها نحو 20 دقيقة لخطبة الجمعة والصلاة. ويخصص الوقت الباقي للمواعظ الدينية والخطابات السياسية التي يقوم علماء الدين والمتحدثون الرسميون خلالها بإلقاء آخر الشعارات الحكومية والإرشادات السياسية. كما توفر هذه المناسبة فرصة للقيادة السياسية لمراجعة وفحص مزاج الأتباع المتحمسين. ودائما ما يقوم المصورون والعاملون في التلفزيون بالبحث عن لحظة يلتقطون خلالها المشاهد التي تعكس ذلك المزاج وتترجمه إلى صورة منشورة.

ومن هذه الصور، تلك التي نشرت في صدر الصفحة الأولى لجريدة «الشرق الأوسط» على امتداد خمسة أعمدة.

وتضم هذه الصورة جمعا من الجمهور أثناء الصلاة يصل إلى 22 رجلا، كما تضم طفلا صغيرا يبلغ السابعة أو الثامنة من العمر. وقد التقطت الصورة أثناء الانتهاء من الخطبة التي ألقاها آية الله أحمد خاتمي حيث يطلب إلى الجمهور رفع أيديهم والهتاف: «الموت لأميركا!» وهو شعار الخومينية.

لكن ماذا نرى في هذه الصورة؟

من بين وجوه الرجال الـ22، كان 6 منهم لا ينطقون بالشعار، وكان من الواضح أنهم يرغبون في إظهار أنهم لا ينادون بهذا الشعار. وكان 6 آخرون ينطقون بالشعار ولكنهم لا يلوحون بأيديهم.

وكان هناك رجل يرفع كلتا يديه في إشارة إلى الاستسلام. وكان هناك آخر يلوح للكاميرا. وحتى أولئك الذين كانوا يلوحون بأيديهم ويهتفون بالشعار، كانوا يفعلون ذلك بطريقة توحي بأنهم يفعلون ذلك مترددين. وباستثناء شخصين اثنين بدا أنهما ينتبهان إلى الكاميرا ويرغبان في إظهار حماسهم، كان يبدو أن جميع من بقي في الصورة يشعرون بالملل والإرهاق وعدم الفرحة.

وكان هناك شاب يمسك بذقنه ويستغرق في تفكير عميق، كما لو أنه كان وحيدا وسط جزيرة صحراوية. وكان هناك رجل في منتصف العمر يلتفت حوله ولا ينصت إلى الحديث. ورجل آخر كبير السن يلوح إلى الكاميرا وكأنه يقول لها «أهلا!» وآخر قد غط في سبات عميق وسط 20.000 ممن يفترض أنهم «متطوعون للشهادة».

ومن بين الرجال الـ22 كان هناك 8 فقط من الشباب، أي تقل أعمارهم عن 40 عاما، وفي هذا إشارة إلى أن الخومينية لم تعد تجذب الشباب. ومن هؤلاء الشباب الثمانية كان 4 منهم حليقي اللحية، وهو شيء لم يكن يفكر فيه أحد في الجمهورية الإسلامية منذ 5 سنوات فقط.

وخلال الأعوام الـ30 الماضية، أصبح الإيرانيون قادرين على تطوير فرع جديد من علم الإشارات يسمى «ريش شناسي». وهذا العلم الجديد يتيح لنا تخمين الخلفية الاجتماعية والاتجاهات السياسية للشخص من خلال شكل لحيته.

وبمساعدة هذا العلم، استطعنا فك رموز صورة «الشرق الأوسط»، واستلهمنا بعض النتائج.

فمن بين الرجال الـ22 لم يكن أحد بينهم يطيل لحيته بالطريقة التي اعتاد عليها عناصر الثورة الخومينية مثل قائد حزب الله اللبناني حسن نصر الله. ومن الواضح أنهم لم يكونوا يرغبون في التشبه بحزب الله، وهي جماعة يكرهها معظم الإيرانيين. وكان 10 من هؤلاء الرجال في الصورة يطيلون لحاهم بالطريقة الإيرانية التقليدية لاسيما في الريف. وكان 3 من هؤلاء الرجال يطيلون شواربهم، وهو تقليد كان يتبعه أعضاء الجماعات الشيوعية مثل مجاهدي خلق.

وكان كل الرجال في الصورة يرتدون القمصان، وكان 4 منهم يرتدون القمصان ذات الأكمام القصيرة، وهو شيء لم يكن أحد ليفكر فيه منذ أعوام قليلة. وكان رجلان يشمّران أكمام قميصيهما. وغني عن القول، إنه لم يكن أحد يرتدي رابطة العنق. وكان أحد الرجال يرتدي قميصا أزرق اللون يبدو أنه غالي الثمن لأنه من صناعة ايف سان لوران. وكان هناك رجل واحد فقط يمسك بمسبحة في يده، وهو شيء كان شائعا في مثل هذه المناسبات خلال السنوات القليلة الماضية.

وتظهر الصورة أن هذه المناسبة كانت مقصورة على الرجال. وكان نحو أربعة أخماس الحاضرين من الرجال في منتصف العمر أو أكبر من ذلك. وعلى الرغم من أن المظهر قد يكون خادعا، إلا أنه يبدو أن معظمهم يتحدرون من خلفيات اجتماعية متوسطة ومتواضعة. وهذه الصورة لا تعكس التركيبة السكانية التي تكون من 55 في المائة من النساء و60 في المائة من الشباب و80 في المائة من الطبقة العاملة في الريف و/أو الحضر.

لكن هناك نقطة أساسية في منتصف صورة «الشرق الأوسط» تماما، إنها صورة طفل صغير، نراه يقف ويفرد أحد ذراعيه إلى أعلى بحماس يفوق حماس أولئك الرجال المحيطين به، ولكن ماذا يفعل هذا الطفل الصغير؟ يبدو أنه يحاول الإمساك بشيء يتخيله ليساعده على الصعود إلى أعلى. لماذا؟ لأنه يرتدي قميصا برتقالي اللون عليه صورة الرجل العنكبوت، وهو الشخصية الأسطورية الأميركية التي تتسلق الجدران.

يبدو أن «الشيطان الأكبر» حاضر ويتربص هناك. وما زاد الطين بلة، أن من يجسده هو ذاك الطفل الصغير الذي ينقل لنا صورة عن جيل المستقبل من الإيرانيين.