الرئيس السودانيُّ وشبح المحكمة

TT

جاء قرارُ مجلس وزراء الخارجية العرب، شجاعاً وحكيماً في الوقتِ نفسِه. فقد رفض المجلس فكرةَ تسليم رئيسٍ عربيٍ للمحكمة متهماً بجرائم حربٍ تُجاه مُواطنيه. وفي الوقتِ نفسِه توجَّه إلى المجتمع الدولي بنداءٍ من أجل التعاوُن والمشاركة، باعتبار أنّ العربَ ليسوا خارجَ العالَم، وأنهم يأبهون بالفعل للمؤسَّسات الدولية وقراراتها؛ وإن لم يروا في هذه الحالة المحدَّدة أنّ هناك مبّررا مقبولا للمحاكمة والإدانة.

والواقع أنّ المحكمة الجنائية الدولية كانت حلُماً منذ أواخر الأربعينات من القرن العشرين المنقضي. لكنّ القطبين الكبيرين آنذاك وقفا في وجه تشكيلها لأسبابٍ متعددةٍ منها خوفُهُما من تدخُّلها في الشؤون الداخلية للدول، ومنها الدول العُظمى! بيد أنَّ الإدارة الدعائية للولايات المتحدة، نجحت وقتَها في توجيه الأمر، بحيث بدا كأنما المعترض هو الاتحاد السوفياتي وحدَه، لأنه يخشى من ملفّات الإرهاب ومن نتائج التحقيق في الجرائم الغامضة التي ارتُكبت إبان الحرب العالمية الثانية، وبعدها. لكنْ عندما بدأ البحثُ فيها من جديد، بعد انتهاء الحرب الباردة، رفضت كل من الولايات المتحدة وإسرائيل التوقيع على اتفاقية روما الخاصّة بها، بحجة إمكان التدخل في الشؤون الداخلية للدول من جديد، وعدم إمكان الموافقة على الشمولية في الصلاحيات، وأخيراً لأنها لا تُقِرُّ إمكان محاكمة مواطنٍ أميركي أمامَها، لأنَّ القوانين الأميركية تتقدم على القوانين الدولية في الاعتبار! ومع ذلك، فقد أُقرّت اتفاقيةُ المحكمة عام 1997، وتحركت في أربع حالاتٍ دون أن تُبدي الحكومة الأميركية رأياً في ذلك. وظلّت مصرةً في الحالات الطارئة (مثل جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري) على إقرار محاكم أو محكمة خاصّة بالحالة المطروحة، وليس أكثر من ذلك! ولذا كان هناكَ مَنْ قال ـ عندما أثار مدعي عام المحكمة: أو كامبو موضوع الرئيس السوداني ـ إنّ الأوروبيين هم الفاعلون في مثل هذه الحالة، وليس الأميركان!

وأياً يكن الموقف من التدخل العسكري أو القانوني الدولي في الشؤون الداخلية للدول القائمة؛ فالواقعُ أنه في حالة السودان هناك رهاناتٌ كبيرةٌ لسائر الأطراف، وبخاصةٍ لدى العرب والمسلمين. فقد حاولتْ جهاتٌ عِدَّةٌ من قبل، وإبّان اندلاع الصراع بين الشمال والجنوب هناك، أن تجلب الشماليين أمام «العدالة» الدولية، تمهيداً لفصل جنوب السودان عن شماله، وإقامة دولةٍ مستقلةٍ هناك، لقطع العلائق بين العرب وإفريقيا لهذه الجهة. لكنّ دوليين آخرين ارتأوا أنّ الدولةَ الجنوبية بالسودان لا تملكُ الموارد اللازمةَ للبقاء. ولذلك عملوا ونجحوا في تأجيل الانفصال، لصالح تمليك الجنوبيين ثلث موارد الدولة والبلاد. لكنْ في السنوات الأخيرة تفجَّر البترول في المناطق الوسيطة بين قسمَي البلاد. فاستجدَّ التفكير في العودة للانقسام ـ وهذا معنى ذلك الصراع الناشب الآن على منطقة أبيي البترولية.

واعتقدت الحكومة السودانية القائمة، وبعد عام 2000 أنها نجتْ من الكابوس أو أنها أَجَّلتْه وإنْ بثمنٍ باهظ. بيد أنّ ذلك لم يدفعْها لتغيير نهجها في التعامُل مع مواطنيها، ولا مع دُوَل الجوار. وإنما انصبَّ الجَهْدُ على إرضاء الولايات المتحدة، وعلى الاستنصار بأطراف المجتمع الدولي المتنافسين معها مثل الصين، التي أعطاها الحكم السوداني امتياز الاستكشاف عن البترول، وحقوق استيراده. وفي حدود العام 2002 بدأت مشكلة دارفور ـ في غرب السودان على الحدود مع تشاد ـ، بين من قيل إنهم سودانيون من أصول افريقية، وسودانيون من أصول عربيةٍ، على الأرض والمياه في تلك المناطق القاحلة. وبدلا من أن تتدخل السلطة الإسلامية العظيمة عسكرياً وأمنياً وتنموياً لفضّ النزاع، وتطوير تلك الأقاليم، انتصرت للميليشيا العربية (= الجنجاويد) ضد المواطنين الآخرين. وكانت الحجة أنّ الثائرين من ذوي الأصول الافريقية، إنما يفعلون ذلك بدعمٍ من خصمهم الرئيس التشادي إدريس ديبي، الذي له أصولٌ وارتباطاتٌ قبليةٌ في تلك الأصقاع. وقد يكونُ ذلك صحيحاًَ، إنما الأثر الأول للاضطراب بدارفور كان تهجير ما يزيد على المليون مواطن سوداني من ديارهم ذاهبين نحو الشمال، أو ـ في الأكثر ـ نحو الأراضي التشادية. وعندما كثُر الكلامُ الدولي على المذابح والتهجير، ودفعت الولايات المتحدة باتجاه قرارات دولية بشأن ذلك؛ اضطر الحكم السوداني إلى قبول قوات افريقية. لكنّ الاضطراب استمرَّ، وعجزت تلك القوات عن فرض الاستقرار، أو إعادة المهجَّرين إلى ديارهم. ومنذ العام 2006 ظهرت أسماء شمالية ودارفورية للمسؤولين عن المذابح. وأَطمع الاهتمام الدولي «ثوار» دارفور، فما قبلوا الحلول والاتفاقيات التي جرى عَقْدُها مع بعض تلك التنظيمات. وظهر هناك مَنْ قال بكيانٍ افريقيٍ للدارفوريين، في قلب السودان، وهي فكرةٌ عمل عليها البريطانيون والفرنسيون على الخصوص. ومرةً أُخرى اضطر الحكم السوداني لقبول عسكر مشترك: دولي/ افريقي بعد جدالاتٍ ومماحكاتٍ استمرت شهوراً طويلة. وعندما جاءت اتهامات المدعي العام بالمحكمة الجنائية الدولية، ما كان عدد وعديدُ القوات الدولية قد اكتمل، ولا كان الاضطراب قد هدأ ـ وبخاصةٍ أنّ التشاديين والسودانيين تبادلوا الهجمات المسلَّحة داخل البلدين: «الثوار» المعارضون للحكومة التشادية انطلقوا من السودان أو حدوده، للإغارة على العاصمة التشادية انجامينا. وردَّ التشاديون عبر « ثوار» دارفور الافارقة، بالإغارة على مدينة أُمّ درمان السودانية!

وهكذا، لا شكَّ في أنّ ملفّ دارفور أُسيء التعامُلُ معه من جانب ثلاث جهات رئيسية: الحكم السوداني، والأطراف الدولية، وزعماء القبائل المتنازعون بدارفور وحلفاؤهم بالداخل السوداني وبالجوار والخارج الدولي! لكنّ اتهامات المحكمة الجنائية الدولية لها بُعْدٌ آخر. ففي الحدّ الأدنى المُرادُ بها إسقاط نظام الحكم بالسودان. وفي الحدّ الأقصى: قسمة السودان إلى دويلاتٍ بين شرقٍ وغربٍ وشمالٍ وجنوب وظاهراً بأيدي السودانيين أنفُسهم، والذين ضاقوا ذرعاً بالحكومة الاتحادية العسكرية، التي ما بقي طرفٌ سياسيٌ أو قبليٌّ أو دينيٌّ بالبلاد كلّها إلاّ وقاتلتْه وحاولتْ إضعافَهُ أو إلغاءه أو تهجيره.

نعم، هناك خطةٌ (وليست مؤامرة، لأنها ليست سرية!) لتوجيه ضربةٍ إلى العرب والإسلام على التخوم الافريقية. فالسودان أكبر الدول الافريقية من حيث المساحة، وهو يملك ـ باعتباره دولةً واحدة ـ موارد وثروات بشرية ومعدنية. ويملكُ في الأصل موقعاً استراتيجياً على التقاطع بين القرن الافريقي والقارة السوداء ومنطقة البحيرات. وقد جرى من قبل، وبسوء التصرف المتبادل، إحلال وتثبيت حالة من العداء للهوية العربية والإسلامية بالقرن الافريقي من ناحيتي إريتريا (وأكثر سكانها مسلمون ومن أُصول عربية) وإثيوبيا (ونصف سكانها مسلمون، وفيها أقليات عربية مؤثّرة). فإريتريا سبق لها أن دعمت انفصال جنوب السودان عن شماله، وسبق لها أن دعمت متمردي دارفور، والمعارضة الجنوبية والشمالية ضد نظام البشير. وإثيوبيا تتربص بإريتريا وبالسودان، وقد تدخلت قبل عامٍ في الصومال، الذي ضاع هو الآخَر منذ حوالي العقدين، في عُباب حربٍ أهلية!

ما عانت أمةٌ من الأُمَم في الأزمنة الحديثة والمُعاصِرة مثلما عانت الأمة العربية. وتأتي معاناتُها منذ عقدين ونيِّف من ميزاتها وخصائصها بالذات. فقد استُخدمت الفكرةُ القوميةُ العربيةُ من قبل ـ ومن جانب الأنظمة العسكرية القومية التقدمية ـ للشرذمة والتقسيم ونشر التوتُّرات والحروب الداخلية، وكلُّ ذلك باسم الحرية والوحدة والتحرير. ولذا فقد فقدت القوميةُ العربيةُ شعبيتها لدى الجمهور، وانصرف الناسُ عنها إلى الإسلام، راجين أن يُنقذهم من قومييهم العسكريين، ومن أنظمتهم. بيد أنّ الإسلام السياسيَّ الاحتجاجيَّ هذا ولَّد من الخصومات بالداخل ومع الخارج، ما جعل البعض يترحم على القومية والقوميين. فإذا كانت العسكريتاريا العربية تقمع الناس بالداخل لفرض الاستقرار، وتعمل مع الخارج من أجل التوازن والاستمرار؛ فإنّ الإسلام السياسي، سيئ العلاقة بالداخل والخارج على حدٍ سواء. والذي نرجوهُ أن لا نشهدَ في الشهور والأعوام القادمة، تفكُّكَ السودان إلى شمالٍ وجنوبٍ أولا، ثم إلى شرقٍ وغربٍ وشمالٍ ثانيا. فالحقُّ أنّ «العدالة» الدولية ما عملت بعصابةٍ على العينين هذه المرة، كما هو رَمْزُ القضاء في العادة؛ بل مارست انتقائيةً مشهودة مثلما فعلت الولاياتُ المتحدة في هجومها على أفغانستان والعراق. وفي الخلاصة إلى مَنْ نتوجَّهُ باللوم؟ إلى الأميركان وإسرائيل كالعادة؟ أم إلى الأوروبيين الذين تفوقوا على أنفسهم هذه المرة في مراعاة حقوق الإنسان، وسيادة الأُمَم والدولة؟! وفي النهاية.. رحم الله عمر أبو ريشة الذي قال:

* لا يُلامُ الذئبُ في عُدْوانه - إنْ يكن الراعي عدوَّ الغَنَمِ