ماركسية القرن الحادي والعشرين

TT

كان المفكر الفرنسي جاك أتالي قد توقع في كتاب هام صادر عام 2005 حول ماركس أن يتجدد الاهتمام بالفلسفة الماركسية، ليس من منظور إيديولوجي كما كان في السابق، وإنما من منطلقات فلسفية خالصة «بعد أن تحرر ماركس من تركة ورثته» إثر تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار المعسكر الشرقي.

إلا أن الاهتمام المتجدد بماركس لا ينحصر في الواقع بالسياق الفلسفي المتخصص، وإنما يتعداه الى شكل من الحركية الاحتجاجية التي تتخذ صيغا متمايزة عديدة.

صحيح أن أعمال ماركس الفيلسوف قابلة لقراءات وتأويلات عديدة، وقديما نقل عن ماركس قوله بعد اطلاعه على بعض الأدبيات الحزبية الشيوعية المنتسبة إليه «كل ما أعرف أنني لست ماركسيا». فمن المعروف أن النسخة الشائعة من الماركسية هي الصياغة اللينينية ـ الستالينية التي تقوم على ثلاثة مفاهيم محورية هي: نظرية الاستلاب الناشئة عن قسمة العمل، ومقولة الصراع الطبقي، ونظرية الدولة المكرسة لديكتاتورية الطبقة العاملة (البروليتاريا).

ولقد برز اتجاه نقدي مبكر في الفلسفة الماركسية لمراجعة هذه الصيغة الإيديولوجية السائدة، اكتملت في كتابات الفيلسوفين الايطالي غرامشي والفرنسي التوسير اللذين نبها الى جوانب القصور في نظرية الإيديولوجيا الماركسية التي تقوم على فكرة التحديدية الاقتصادية المبسطة ومقولة الاغتراب ذات الجذور الدينية الملتبسة.

وفي أيامنا شهدت الماركسية استفاقة نظرية هائلة من خلال أعمال الفيلسوفين الايطالي أنتونيو نغري، والأمريكي مايكل هاردت، وأهمها كتاباهما المشتركان «الامبراطورية» و«الجمهور». وإذا كانت هذه الكتابات قد لقيت رواجا واسعا في حقل الدراسات الفلسفية لتوظيفها الثري لأهم الأفكار والنظريات الجديدة، فإنها عبرت في الآن نفسه عن تحولات نوعية في الحقل السياسي ـ الاجتماعي للدولة ما بعد القومية التي تمخضت عن ديناميكية العولمة المتنامية.

فنا نعيشه حاليا هو انبثاق أنماط جديدة من الماركسية تلائم المرحلة الراهنة التي عادت فيها «المسألة الاجتماعية» (حسب اصطلاحات القرن التاسع عشر) للواجهة. وتعني عبارة المسألة الاجتماعية هنا الصراعات المتولدة عن الرهانات الاقتصادية والمعيشية، التي تغيرت سماتها ونتائجها.

لم تعد هذه المسألة تعني راهنا صدام البورجوازية المالكة لوسائل الإنتاج وطبقة الشغيلة المستغلة، ذلك أن الدولة الليبرالية الحديثة استطاعت إبداع آليات ناجعة لامتصاص صدمات هذا الصدام الملازم للمنظومة الرأسمالية (دولة الرفاهية وسياسات التضامن الاجتماعي)، كما أن بنية الشغل وطبيعته تغيرتا، فمرت المجتمعات الصناعية من نمط العمل المادي المتمحور حول استخراج المواد الأولية والتصرف فيها الى الاقتصاد غير المادي القائم على الذكاء الاصطناعي الذي غير جذريا نوعية العامل وعلاقات الإنتاج.

كما أن طبيعة السلطة السياسية قد تبدلت نوعيا، فبعد الدولة القومية المركزية ذات السيادة المطلقة انتقلنا الى مسلك «السلطة الحيوية» التي تقوم على ضبط الحياة والتحكم في مسارات العيش الأكثر حميمة، مما تناوله ميشال فوكو في أعماله الأخيرة وبسط القول فيه الفيلسوف الايطالي جورجيو اغامبن.

تترجم الديناميكية الاحتجاجية الجديدة في حركة العولمة البديلة ذات الخلفية الماركسية المميزة، التي وصلت بعض أوجهها السياسية الفاعلة الى السلطة في عدة بلدان لاتينية أمريكية (فنزويلا والبرازيل...) وأصبح لها حضور لافت في البلدان الإفريقية.

كما غدا لهذه الحركية شكل تنظيمي هلامي بزخم إعلامي كثيف، يترجمه منتدى «بورتو أليغرو» الذي يلتئم سنويا بمناسبة انعقاد ملتقى دافوس وقمة الدول الثماني الصناعية. كما أن لهذه الدينامية رموزها الفكرية النافذة، التي من أهمها عالم اللسانيات الأمريكي ناحوم تشومسكي، والفيلسوف الايطالي نغري، وعالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو...

فخط التصادم الجديد لم يعد يتركز داخل الجسم الاجتماعي للدولة القومية، وإنما عبر فضاء العولمة الواسع بين المركبات المالية والصناعية عابرة القارات المتحكمة في الاقتصاد العالمي وهوامش الرفض والاحتجاج المناوئة لها التي لا مركز ولا محور لها.

ولا شك أن الأزمة الغذائية العالمية الطاحنة التي تركت آثارا مأساوية في البلدان الجنوبية الفقيرة ستساهم بقوة في إذكاء هذه الحركة الاحتجاجية الناقمة التي تجد في القاموس الماركسي العتيق بعض السحر والإغراء، ولو من خلفيات نظرية وإيديولوجية مغايرة.