المحكمة الجنائية الدولية والرئيس البشير

TT

في مطالبة مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية، لويس مورينو أوكامبو، هيئة المحكمة باتهام الرئيس السوداني، عمر البشير، بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية وجرائم بحق الإنسانية وجرائم الحرب في دارفور، وفي سعيه إلى إصدار مذكرة توقيف بحقه، مما سطر يوماً تاريخياً في العدالة الدولية. فهذه هي أول تهم بارتكاب إبادة جماعية وأول تهم تُساق بحق رئيس دولة للمثول أمام المحكمة الجنائية الدولية. وفي هذه الخطوة أيضاً ما يُمثل فرصاً كبيرةً ومخاطر جسيمة بالنسبة إلى السلام في السودان.

أما التحدي الذي يعترض اليوم سبيل معِدِّي السياسات فهو كيفية إحاطة عمل المحكمة الجنائية الدولية البالغ الأهمية أفضل إحاطة، وهي التي تعد بوضع حدٍّ لحصانة أكثر الجهات مسؤولية عن الويلات المقززة. ويتعين على المحكمة أن تُعالج الحاجة المساوية أهمية ـ إن لم تكن الأكثر أهمية ـ والتي تقضي بوضع حدٍّ لمعاناة الشعب السوداني وبالحرص على عدم تفجر أعمال العنف من جديد.

وتابع المدعي العام مهمته وبكل عزيمة. وفي العام الفائت، أصدرت المحكمة مذكرات توقيف بحق وزير الدولة للشؤون الانسانية أحمد هارون وقائد الجنجويد علي قشيب. وأتى رد حكومة السودان ساخراً ومعربا عن ازدرائها بالمحكمة وتم ترقية هارون إلى منصب وزير الشؤون الإنسانية وأولته مسؤولية العمل مع وكالات إغاثة مسؤولة عن توفير الدعم الإنساني لضحايا النزاع وكأنها ليست معنية بمقتل مواطنيها.

ولكن المسألة لا تقف عند هذا الحد. أولاً، ليس مدعي عام المحكمة يعمل في ظل فراغ سياسي. لذا تترتب عن أعماله واستراتيجيته تبعات على استقرار السودان واحتمال نجاح جهود السلام أو فشلها. وليس مطلوباً منه أن يُدافع عن مصالح السلام بل أن يعمل لنصرة القضاء فلا يُفلت من العقاب من يُشتبه في ارتكابه جرائم فظيعة.

ولكن الضغط المتزايد الذي يخضع له النظام اليوم يُمكن أن يحدو به لأن يسلك أحد المسلكين. فيُمكنه أن يُجبر النظام على أن يعي بأن خياراته تتقلص بسرعة، فيعمد تالياً إلى اتخاذ خطوات لوقف جميع أعمال العنف وتطبيق تدابير فعلية وذات مصداقية لمعالجة أزمة دارفور وإنجاز ما يترتب عنه من واجبات في صفقة تطبيق اتفاق السلام الشامل، أي صفقة عام 2005 التي وضعت حداً لحربٍ دامت عشرين سنة بين شمال السودان وجنوبه.

أو يُمكنه أن يُسبب اهتياج النظام فتكون العواقب وخيمةً لأعداد كبيرة من الأشخاص. فيزداد المتصلبون من كلا الجانبين تصلباً ويكون رد النظام الحاكم وغيره من الفعاليات على طلب المحكمة وأي مذكرة تصدر مستقبلاً من القساوة بحيث يقوض عملية السلام الهشة أصلاً بين الشمال والجنوب، مما يضع حداً لاحتمال عقد مفاوضات سياسية في دارفور ويجعل انتشار قوات حفظ السلام مستحيلاً ويُعرض للخطر عمليات الإغاثة التي تبقي على قيد الحياة حتى الساعة حياة أكثر من مليوني مسلم في دارفور وتحول دون اشتعال نار الأزمة في مناطق أخرى.

وحيث يُرجح أن ينقضي شهران أو ثلاثة قبل صدور قرار المحكمة بشأن إصدار المذكرة، أمام الأسرة الدولية بصيص أمل لكي تعزز آفاق السلام في السودان. وهذا ممكن عن طريق حث حكومة السودان والحركات المسلحة في دارفور على إبداء التزام فعلي حيال السلام، وهو التزام يجب أن يُثبت من خلال خطوات قابلة للقياس.

وبموجب المادة 16 من ميثاق المحكمة، أي نظام روما، يتمتع مجلس الأمن بصلاحية اتخاذ قرار تعليق تحقيقات المحكمة أو ملاحقاتها لمدة 12 شهراً قابلة للتجديد بصورة سنوية. وتظل نتائج التحقيق أو الملاحقة جارية ولكنها تُعلق ويُمكن استئناف العمل بها في أي وقت إذا لم يُجدد القرار.

وبالتالي، إذا التمست دلائل تؤكد على أن الحكومة السودانية جدية في قرارها إحلال السلام في السودان وحماية شعبها، باستطاعة مجلس الأمن أن يُعلق قرار ملاحقة الرئيس البشير قضائياً. ولكن إعادة النظر في أي قرار بالإحالة بصورة سنوية من شأنه أن يُحفز النظام على أن يُجسد التزاماً غائباً حتى الساعة بالامتثال للتعهدات التي قطعها تحت سيف المحكمة المسلط والمُهدد بالملاحقة.

وهذا القرار ليس بالسهل. ولعله لن يُتخذ يوماً إذا استمرت حكومة السودان في ازدراء الأسرة الدولية وصعدت حدة العنف وبثت سموم التوتر في السودان. ولكن إذا كان التقدم باتجاه إحلال السلام فعلياً في السودان، فبالتالي سيكون التحدي أمام مجلس الأمن هو معرفة أي السبل هو الأفضل لوضع حد لمعاناة الملايين في السودان ولردع مشاريع مجرمين: أن تتابع المحكمة تدابير الملاحقة أو أن تؤجلها فتخدم مصالح السلام؟

* نائب رئيس المجموعة الدولية للأزمات