(النزاهة الفكرية والخلقية).. في التعامل مع الدعوة للحوار العالمي

TT

يستحيل أن تستقيم حركة التفكير بدون (النزاهة الفكرية)، ذلك انه ليس من المستطاع التوصل إلى الحقيقة، وإدراك الصواب في ظل سيادة الانطباعات، والخواطر، والانفعالات والتعصبات، و(الأحكام الجاهزة) أو المسبقة، ونية أو إرادة (تحريف) المبادئ والمفاهيم والمصطلحات عن مواضعها لأجل تحقيق هدف ايدلوجي أو سياسي أو دعائي أو مذهبي، فهذه كلها (حجب) تحجب الناس عن تبيّن الصواب الميسور أو الأكثر رجحاناً، وتبعدهم عن الهدف المنشود من طرح هذه القضية البشرية أو تلك.

ما النزاهة الفكرية؟

إنها ليست أمنية تتمنى، ولا رغبة متموجة أو متقلبة: تنشط أحياناً، وتخمد أحيانا: بحسب الحالة النفسية السائدة في لحظة معينة. إنما (النزاهة الفكرية) هي (اختيار المنهج بعلم ثم التزامه في الرصد والتحليل والاستنتاج التزاما ينبني عليه السلوك والعمل).

وما المنهج؟.. المنهج هو:

1 ـ بناء التفكير على (قواعد) واضحة مستقرة: يطّرد التزامها، بمعنى ألا يحصل لها تعطيل، ولا يقع فيها انتقاء ولا استثناء (مثال ذلك: الحوار العالمي بين الأديان، فهو قضية عامة يتوجب أن يلتزم التفكير فيها بقواعد مشتركة يلتزمها الجميع: بلا هوى يلتوي بالمنهج إلتواء سببه الانتصار السياسي أو الايدلوجي لقضية بعينها)... وإنه ليحزننا أن نقول: إن ذلك حصل حين سأل رجل دين معروف ـ عبر إحدى الفضائيات ـ مثقفيْن مسلميْن: كم مرة ذكرت القدس في القرآن (وجاء السؤال في صيغة توهين مكانة القدس في الإسلام).. ثم طرح سؤالا آخر أكثر عجبا وهو: هل تعترفان بـ(وجود إسرائيل)؟.. ولا شك ان السؤالين (استغلال) لمناخ الحوار من أجل خدمة أجندة خاصة، وهو استغلال يترجم الخروج على قواعد التفكير الحواري التي ينبغي أن يلتزمها الجميع باطراد.. ثم هو استغلال غابت أو غاب هو عن (النزاهة الفكرية).

2 ـ مجاهدة النفس: ابتغاء (التحرر) من آفتيْْ الفكر: العاتيتين الماحقتين وهما (آفة الظن) أو ضالة الحصيلة العلمية والمعرفية.. و(آفة الهوى)، فهناك ناس من الناس من الذين يشتغلون بالثقافة والفكر.. بل الشأن الديني «!!» يهجمون على القضايا والموضوعات بلا معرفة حقيقية. وبعضهم قد يكون معه قدر معقول من المعرفة، بيد أن آفة الهوى تلتوي بصاحبها التواء يفسد ما معه من معرفة.. هاتان الآفتان أو العلتان هما (مصدر) الفساد الفكري، والخداع الفكري، وعدم النزاهة الفكرية.. ولما كان من مقاصد القرآن (التسامي) بمصادر المعرفة وحمايتها من الأهواء وسائر الآفات. فإنه جرّم آفتي: الظن والهوى «إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس».

3 ـ الالتزام بـ(الموضوعية)، أي بالقضية المطروحة للبحث والمناقشة، فإن التركيز على الموضوع من شأنه أن يوصد الأبواب في وجه السلبيات غير الموضوعية (مثل سلبية: هل تعترفون بوجود إسرائيل)؟!

4 ـ الأسلوب المهذب أو التعبير العف، فإن الفكر المعرفي الأصيل الجميل لا يُخدم بالسباب، والاستفزاز، والخشونة، والغلظة والفظاظة و(التي هي أسوأ)!!

لماذا المناداة بـ (النزاهة الفكرية) الآن: ما الداعي؟.. وما المناسبة؟

منذ قليل انتهى المؤتمر العالمي للحوار في مدريد، وهو مؤتمر دعا إليه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز ومن دوافع الملك السعودي الى هذه الدعوة ـ على سبيل المثال ـ: خفض (التوترات الدينية) التي يلتهب بها الكوكب التهابا شديدا نتج عنها تيارات تطرف شديدة الضرر على أممها، وعلى العالم كله.. ومن الدوافع ـ كذلك ـ: إيجاد مناخ عالمي انساني يسمح بمزيد من التعارف والتفاهم والتعايش والتعاون بين بني آدم.

بيد انه يُلمح ان ناسا من الناس ـ من هنا وهناك وهنالك ـ فقدوا (النزاهة الفكرية) في التعامل مع الدعوة للحوار فذهبوا يفسرونها ويوظفونها في خدمة غير مقاصدها وأهدافها.

فمنهم من يزعم أن المؤتمر (غطاء) لكذا وكذا من الأهداف السياسية!!.

ومنهم من فسرها (وهذا هو التفسير الأخطر والأشد ضررا) بأنها (محاصرة للإسلام ودعوته) على يد مسلمين «!!!!!»..

التفسير جد خطير، بيد أن هذا نزوع لا يُستغرب في ظل غياب (النزاهة الفكرية) التي قلنا: إنها واجبة الالتزام في التعامل مع مثل هذه القضية. ثم هو تفسير مبني على (سوء الظن).

والظن لا يثبت أمام منظومة من (الحقائق) الساطعة الخالدة التي لا يستطيع أحد الغاءها ولا نسخها:«قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب. قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد»، فالاسلام ليس من الهشاشة بحيث يقضى عليه بمؤتمر ما، أو بتوظيف سيئ لمؤتمر ما:

أولا: الحقيقة الأولى: ان الاسلام دين حق نزل بالحق وللحق:«وبالحق أنزلناه وبالحق نزل».. والحق غلاّب أبدا.

ثانيا: الحقيقة الثانية: أن الاسلام دين محفوظة مصادره بحفظ الله لها، ولذا لم يتطرق الى هذه المصادر: تحريف ولا تبديل قط:

أ ـ «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون».

ب ـ «وإنه لكتاب عزيز. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد».

ثالثا: الحقيقة الثالثة: إن الاسلام (دين عالمي) انزله الله الرحمن الرحيم اللطيف الودود على نبيه محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لأجل هداية البشرية واسعادها ورقيها ونفعها، وأن الدعوة اليه ـ من ثم ـ واجب دائم، ولكنها الدعوة بالحسنى والرفق والمحبة واللين.. والاقتناع الحر 100%.

رابعا: الحقيقة الرابعة: ان دعوة الاسلام عمادها التوحيد الخالص المبرأ من كل شرك، فهو دين لا يواطن الشرك ولا يداهنه ولا يقايض على التوحيد بشيء: أي شيء.. والتوحيد حقيقة صدح بها أولو العزم من الرسل: نوح وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم جميعا الصلاة والسلام.

خامسا: الحقيقة الخامسة: إن الاسلام دين انتظم الأسس الكلية والمقاصد العليا والمضامين الحقة الجليلة التي وردت في التوراة والانجيل والزبور وسائر الكتب السماوية والتي هتف بها الأنبياء والمرسلون كلهم:«قولوا آمنا بالله وما أنزل الينا وما أنزل الى ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون».. فالاسلام ـ من ثم ـ هو (السجل الأعظم والأشمل) لدعوات الأنبياء والمرسلين ولكتبهم المقدسة.

سادسا: الحقيقة السادسة: ان الاسلام دين يدعو الى (رقي الكلمة) وسمو العبارة في التخاطب:«وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن»: ليست الحسنة بل (الأحسن)، ولكنه إذ يرسي هذه القاعدة الكبرى في لغة التخاطب، فإنه يفتح باب (الرخصة) أمام المسلمين للدفاع المشروع عن دينهم وأنفسهم حين ينزل بهم ظلم:«ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم».

سابعا: الإسلام دين يقرر ـ بحسم ـ ان البشرية (عائلة واحدة) وان التعارف والتفاهم والتعايش الكريم هو منهج العلاقة بينهم مهما اختلفت ألوانهم وألسنتهم ومللهم:«يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم».

في ضوء هذه الحقائق: لا ينبغي أن يجفل المسلمون من أي حوار، لأن الإسلام لن يهزم أبدا في (مباراة فكرية حرة).. أما الاستغلال والتوظيف السيئ للحوار فينبغي أن يواجه بيقظة مستمرة، وحجة فكرية غالبة: حفاظا وحرصا على (النزاهة الفكرية) في التعامل الجاد مع الدعوة الى الحوار، ولا سيما ان الدعوة صدرت من بلد (معجون) بالاسلام: تنزلا وبعثا ومقدسات وجغرافيا ـ طبيعية وبشرية ـ وتاريخا ودعوة وحضارة ولغة ونظاما ومجتمعا ودستورا.