عالمية حقوق الإنسان.. الشعار الذي بات واقعا !

TT

إن من يتأمل التحولات والمتغيرات الأخيرة على المسرح الدولي، يرى أن شعارات ومعاهدات واتفاقات حقوق الإنسان قد أخذت مع مرور الوقت تمارس تأثيراً حياً على سياسات هذه الدولة أو تلك، والفضل ـ بالطبع ـ يعود إلى الناشطين أصحاب الإرادة الذين لم يتوانوا في استغلال المناخ العام من أجل تكريس مفاهيم التعددية وحقوق الإنسان، فهؤلاء لم يعد الهاجس الايديولوجي مهيمناً عليهم بقدر ما أن الغاية التي يتوقون إليها تنصب في معان إنسانية سامية تكمن في احترام إنسانية الإنسان بدون استعباد أو مِنّة وإعطائه حقوقه المشروعة التي تبدأ من الحرية، وان كانت تُنتزع ولا تعطى ـ كما يقال ـ إلا أنها في الحقيقة (أي حماية حقوق الإنسان) تشكل في وقتنا الراهن مصدراً جديداً للشرعية لأي نظام.

ولعل هذا من مزايا العولمة التي تستخدم قضية حقوق الإنسان كأسلوب وطريقة لإحداث تغيير معاملة الحكومات لشعوبها، حيث أن الحكومات اعتادت في أن تفعل ما تشاء داخل اختصاصها القانوني على اعتبار أن مبدأ السيادة الوطنية يعطي لها هذا الحق، وفي هذا بعض الصحة، إلا أن الحقيقة الماثلة للعيان وحسب المفهوم العولمي الجديد، يرى في أن الحكومة (أيّة حكومة)، لم تعد كما كانت سابقا، حيث يقتصر دورها في التقيد بالمواثيق والقوانين والمعاهدات الدولية، أما الشأن الداخلي، فلها كل الحق أن تفعل ما تشاء حتى لو أدى ذلك إلى تعذيب وتحقير شعبها كما فعل السابقون (شاه إيران أو عيدي أمين حاكم أوغندا أو انستاسيو في نيكاراجوا)، بل صارت مطالبة (كل حكومة) بالتقيد بالقيم والمبادئ حتى في نطاق اختصاصها الوطني.

على أن من يطلع على التقارير الدولية يجد فيها انتقادات لكل الحكومات، التي تنتهك حقوق الإنسان وتمارس ضد مواطنيها أساليب القمع والتعذيب الوحشي والقتل والسجن وتصادر حرياتهم في التعبير، ولذا فإن هذا التحول في مفهوم الدولة وواجباتها، استمد قوته من معايير حماية حقوق الإنسان، وهو الذي جعل من الرقابة الدولية أمراً مطلوباً وملحاً، لا سيما انه أعطى معياراً جديداً للأنظمة السياسية في العالم، يتمثل في أن من لا يهتم بهذه الحقوق لا يجدر به أن تكون له سلطةً. ولم يصل الأمر عند هذا الحد، بل تجاوزه إلى التطبيق، فالأنظمة السياسية الديكتاتورية في عالمنا اليوم تعرض حكامها لاعتقالات ومحاكمات بتهم ارتكاب جرائم حرب وأعمال فساد، ولعل هذا ما يفسر الاهتمام العالمي بدعم وكالات ومنظمات حقوق الإنسان المستقلة، سواء كانت عامة أو خاصة، بالإضافة إلى المنظمات الحكومية الدولية، التي ما فتئت تنادي صناع القرار (لا سيما في العالم الثالث)، بتكييف سياساتهم وفقاً لمعايير حقوق الإنسان. إن المناداة بحماية حقوق الإنسان، باتت قانوناً وواقعاً بعدما كانت شعاراً مثالياً قاصراً على المجتمعات المتقدمة، والحجج التي نسمعها بين الفينة والأخرى من بعض الدول حول معايير حقوق الإنسان لا تلبث أن تتلاشى عندما نجد (مرجعياتها) أديانا كانت أم أعرافاً، تحتوي على هذه المبادئ، بل وتؤكد وجوب تطبيقها.

ولعل البعض يرى أن العالم العربي بحاجة إلى مراجعة الكثير من سياساتها، كما أنها مطالبة بإشراك شعوبها معها لمعالجة قضاياها المحلية، ولا يمكن تحقيق ذلك بدون إعطاء تلك الشعوب الحقوق الأساسية من حرية ومساواة ومشاركة سياسية.

لا ريب في أن حماية حقوق الإنسان في طريقها إلى مرحلة جديدة يصار فيها إلى معنى الالتزام، بمعنى عندما لا تلتزم (أية دولة) بقانون حقوق الإنسان، فإن العقاب هو المصير. انظر إلى نهاية بينوشيه الحاكم التشيلي السابق، وسلوبودان ميلوشيفتش الرئيس اليوغوسلافي السابق ومعاونيه، وصدام حسين وبعض مساعديه، وغيرهم ممن اتهموا بارتكاب جرائم حرب وإبادة، وانتهاكات لحقوق الإنسان، فكلهم تمت إحالتهم للمحاكمة.

هذا يعني أن القانون الدولي لحماية حقوق الإنسان أصبح حقيقة وصار إلى التطبيق أقرب منه إلى التنظير، وهذا يكرس مفهوم (عالمية حقوق الإنسان)، ومن يقول إن حقوق الإنسان في الفكر الأوروبي الحديث تصدر عن العلمانية، بينما تصدر حقوق الإنسان في الإسلام عن الدين، نقول إن كليهما يقومان على أسس فلسفية واحدة، فالهدف والغاية واحدة، وان اختلفت (المرجعية) والظروف التاريخية لتلك الأحداث التي أدت إلى ظهور مثل تلك المفاهيم. ويبدو ان العالم في حالة مخاض نحو تكريس قانونية حقوق الإنسان، ومن الطبيعي أن تراعي الحكومات هذا المنحى، ولعلها تفعل أو تبدو كذلك ـ على الأقل ـ لتكون حكومة فاضلة، وأفضل الحكومات ـ كما قال فولتير هي تلك التي لا يطاع فيها إلا القانون.

www: zuhair-alharthi.8m.com