العراق: وجدل قانون المحافظات

TT

شكل التصويت الذي تم في البرلمان العراقي على قانون انتخابات مجالس المحافظات علامة بارزة وفارقة كونه ابتداء تصدى لإحدى المشكلات الأعقد في الوضع العراقي وهي محافظة كركوك الغنية بالنفط، حيث حاول أن يميز وضعها بنص اختلفت عليه رؤيتان، رؤية التحالف الكردستاني التي وضعت بعد التوافق مع أطراف بنص اعتبره الآخرون عامّا وغير محدد ويفتقر للضمانات، ورؤية أخرى بديلة بتأجيل الانتخابات وتقاسم السلطة وان يتم تشكيل لجنة تقص للأوضاع في كركوك ودعاوى التغيير الديموغرافي وتوفير التوازن والضمانات ثم انتخابات. فاعتبر الكرد التصويت على الخيار الثاني الذي تم بعد انسحابهم وبأسلوب طعنوا فيه بأنه انقلاب دستوري وليّ لإراداتهم وعملية كسر عظم معهم، بل وصفه نائب رئيس كتلتهم البرلمانية بأنه امتداد لحرب الأنفال ضدهم.

فاستخدم الرئيس الطالباني وأحد نائبيه الفيتو لرد التشريع الذي صوت عليه 127 نائبا لمخالفات أوردها، وانطلاقاً مما رآه بأنه يمس روح الدستور وجوهره المتمثل في قاعدة التوافق، فرغم ان الدستور العراقي لا يقوم على قاعدة التوافق بل ان الممارسة السياسية سارت عليها، فانه يثور استفهام أين كانت قاعدة التوافق عندما صوت في سبتمبر 2006 على قانون تشكيل الفيدراليات بغياب وانسحاب كل المكون السني ومعه كتل سياسية أخرى وفي قانون يمس محافظاتهم ووجودهم وينقلهم من نظام الى نظام آخر وليس متعلقا بقانون انتخابات محافظة لم تحسم بعد للكرد عائديتها، والآن على مكتب الرئيس النقاط الخلافية في الدستور لحسمها واغلبها تمس بشكل أساسي مصالح ومستقبل المكون السني نأمل من الرئيس ان يحسمها وفقاً للقاعدة التي حرص عليها.

إن ما جرى رأى فيه الأكراد مدعاة لهم لإعادة النظر بتحالفاتهم، ومن نتائجه ان يروا تغير خارطة ومسارات التحالفات وأسسها، لا شك أن من حق الكرد أن يشعروا بالمرارة وان يلوموا الآخرين للتنصل من التزاماتهم وعدم قدرتهم على ضبط تصويت أعضاء كتلهم، ولكن المنطق ايضاً يستلزم ان يراجعوا مواقفهم ويتبينوا سبب تنامي قدرتهم على تكتيل الآخرين ضدهم، في حين ولعقود كانت مظالمهم وقضاياهم وحقوقهم هي في صدارة اولويات نضال كل القوى الوطنية العراقية.

فالموقف الذي ظهر عند التصويت والذي جعل عشرات من النواب يتمردون على قادة كتلهم وفضلوا التصويت السري للتحرر من هذا الضغط، لا شك انه نتاج تراكمات، ولا أريد أن أخوض فيها، بل سآخذ جانباً، وهو المهم، كونه يمس بقاء واستمرار ومصالح الكيان العراقي وأعني الدستور، فرغم ان المادة التي اتاحت مراجعة الدستور حددت ان يتم ذلك خلال أربعة أشهر على انعقاد البرلمان، إلا انه مضى ما يقارب الثلاث سنوات ولم يتم الاتفاق على التعديلات الجوهرية ولا يحتمل ان تحسم، حيث أن الأكراد يرفضون التنازل أو تقليل أي مما حصلوا عليه في الدستور، فبقيت الخلافات في مسألة النفط والمياه وتنازع قوانين المركز والإقليم وغيرها، وهذا يأتي وقد اختبرنا الدستور بالتطبيق ولمسنا مواضع اختلالاته، وفي أهم مورد يمكن ان يوحد العراق او يجزئه واقصد النفط، فبقيت مسألة الآبار الحالية تدار من قبل المركز والتي تكتشف من قبل الإقليم، وشهدنا وشهد العالم المهتم معنا التنازع على شرعية العقود النفطية التي أبرمتها حكومة إقليم كردستان.

الذين يلومون النواب على التصويت ضدهم لا يفكرون بأن ضمائر النواب ممتحنة عندما يجدون ان ميزانية اقليم كردستان لهذا العام بعد اقتطاع النفقات السيادية بلغت عشرة مليارات دولار، اي اكثر من ميزانية الأردن أو لبنان أو سوريا، والتي يأتي 90 % منها من موارد نفط البصرة في الوقت الذي يجد فيه الأكراد أنفسهم أحرارا بمنح عشرين عقداً للآن لشركات أجنبية للاستثمار واستخراج نفطهم، ليس فقط بدون مشاورة الحكومة المركزية بل حتى دون ان تطلع على شروط هذه العقود.

وكذلك الإصرار على الإبقاء على سلطتهم على المياه والأنهار النابعة من جبالهم، في حين انه حتى الدول في ما بينها حددت الاستفادة من الأنهار المشتركة وإدارتها. أما المادة 115 والتي تطرقت الى الصلاحيات المشتركة، فيمكن اعتبارها المادة الناسفة لسلطات الدولة المركزية، إذ أنها نصت عند التعارض بين قوانين المركز وقوانين اي اقليم أو محافظة فان الثانية لها السيادة والتطبيق، اي ان مجلس النواب العراقي عندما سيشرع قانونا في هذه الاختصاصات فان قيمته لا تتعدى أكثر ممن يشرع قانونا في غرفة نومه، حيث باستطاعة إقليم أو محافظة تشريع ما يناقضه وإلغائه عملياً، فأريد ان يستثنى من الصلاحيات المشتركة التي تنقضها الأقاليم مسائل النفط والمياه والجمارك والموانئ وتم رفض ذلك من قبل الكرد، لذا فلم تبق من الناحية الواقعية للمركز حتى السلطات السيادية التي تعارفت عليها الفيدراليات، فلا أعلوية لقانونه ولا وحدة ادارة وتوزيع موارده الطبيعية بل تم الذهاب الى منازعة المركز على المتبقي من اختصاصاته في السياسة الخارجية اذ يراد هذه الأيام تفعيل الفقرة 4 من المادة 121 والتي لا يوجد لها قرين لا في دساتير العالم ولا في العلاقات الدولية، بل حتى واضعو اتفاقية فيينا للتمثيل الدبلوماسي لم يذهب بهم الخيال بأن التجربة العراقية ستضيف بعداً جديد للدبلوماسية وللعلاقات الدولية بان تمنح تمثيلاً خارجياً للأقاليم والمحافظات.

الأكراد في كل ذلك تحكمهم ثنائية الحلم والهاجس، حلم اقامة دولة، فهم يهيئون البنية التحتية لانفصال ينتظر الفرصة الدولية والإقليمية السانحة، وهاجس أن لا تبقى إرادتهم أو رقبتهم بيد بغداد وان يحموا أنفسهم من اي طرف عربي، لذا فالحال الأمثل لهم هو كما وصفه كيسنجر «فيدرالية»، الفرق بينها وبين الاستقلال لا تكاد تميزه بالعين المجردة. وهذا ربما عادل، فهم الشعب الوحيد في المنطقة الذي ليست له دولة، ولكن المشكلة هي حتى تحقيق الحلم أو تطمين الهاجس سيظل النظام السياسي في العراق متنازع الصلاحية ومعاقا ومصدر تحفيز لتمردات كامنة في أجزاء أخرى.