سامراء المدينة المنسية

TT

يقول المثل الإنجليزي «لا خبر أحسن خبر». ولكني أجد نفسي معارضا لهذا المثل بالنسبة لهذه المدينة العراقية المنسية، سامراء، التي سميت «سر من رأى» لروعة بنيانها وخضرتها. فالتقارير الواردة عما يجري في أنحاء العراق لم تعد تذكر أو تتذكر هذه المدينة التاريخية التي أصبحت عاصمة الخلافة العباسية لنحو 58 سنة بعد أن بناها المعتصم وأقام فيها ثمانية من الخلفاء. وعاصرها كل أولئك الأفذاذ الخالدين في تاريخ الفكر والأدب العربي، الإمام أحمد بن حنبل الشيباني وإمام الحديث وحجته محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج القشيري والمؤرخين الشهيرين الطبري واليعقوبي. شهدت سامراء في عز مجدها عميد الفكاهة العربية قاطبة الجاحظ والشاعرين اللامعين أبو تمام والبحتري، الذي قال فيها:

لأرحلن وآمالي مطرحة

بسر من رأى مستبقى لها القدر

يعرفها كل تلميذ عراقي من تلك المنارة الشهيرة الشامخة والفريدة في تصميمها التي شيدها بنو العباس بجانب مسجد الخلفاء والمعروفة بالملوية. طالما رأينا صورتها على الطوابع البريدية والأواني النحاسية والسجاد وبطاقات البوستكارد. أصبحت في الواقع رمزا معروفا للدولة العراقية كما أصبحت الأهرامات رمزا لمصر. والملوية كلمة طريفة اشتقها العراقيون من فعل الالتواء ليعبروا فيها عن نفسيتهم الازدواجية الملتوية التي أوغل في تصويرها وتحليلها العالم الاجتماعي الدكتور الوردي. يصعدها المواطن فيلف ويلتف ويدور حول نفسه، وحول المنارة، أماما ووراء، لا يدري متى سيصل أو كيف سيصل أو أين هو الموصل، حتى يتملكه الدوران ويدوخ وينادي صارخا على شأن العراقيين، أدركوني يرحمكم الله!

يسمع نداءه الجنود الأمريكان فلا يدركون ماذا يريد. فيأتونه بقنينة كوكا كولا ويقدمون الفاتورة للمقاول.

على بعد مائة متر أو نحو ذلك، أقيم ذلك القبر المهيب الذي يضم رفات الإمامين، علي الهادي والحسن العسكري. إدارته بيد السنة وله معزته الخاصة عند الشيعة. والكل في وئام وانسجام. يدفع الشيعي إكرامية للحارس السني الذي يحرس السرداب.

أثارت المدينة اهتمام العالم عندما قام الإرهابيون بنسف المسجد. من قام بالعمل المشين؟ اختلطت الأفكار بين من اتهموا «القاعدة» ومن اتهموا جيش المهدي. بيد أن أحدا لم يختلف في أن أهل المدينة أبرياء مما جرى. فمعيشتهم تتوقف إلى حد كبير على الزائرين للمزار. ومع ذلك دفع سكان المدينة الثمن الباهظ. لا ماء ولا كهرباء ولا غذاء ولا بطيخ سامراء. هذا البطيخ الأحمر الشهير (الرقي السامرلي) الذي كنا نتلاقفه في بغداد لم يعد له وجود. المزارعون لا يجرأون على إزعاج جيش المهدي أو فروع «القاعدة» بنشر بزر البطيخ على الأرض. ونساهم العالم وتناستهم السلطة وتجاهلتهم وسائل الإعلام. لا أذكر أنني قرأت خبرا عن سامراء منذ اشهر، هذه المدينة السياحية والتاريخية اختفت من سجل التاريخ. وربما سيختفي سكانها أيضا من سجل الأحياء، فكل ما أسمعه منها هو مقتل فلان وانتقال فلانة إلى رحمة ربها.