البشير والنذير..!

TT

د. مأمون فندي

رحب قادة العالم بالقبض على ردوفان كارديتش، الرئيس السابق لصرب البوسنة، والمتهم بقتل ما يقرب من ثمانية آلاف مسلم من أهل البوسنة، جريمة رأت أوروبا أنها الأبشع منذ محارق هتلر، ليتحرك قطار محاكمته على نفس القضبان التي سار عليها مصير رئيس صربيا السابق سلوبودان ميلوسوفيتش. لكن الكثير من الصرب يرون في ردوفان كارديتش وسلوبودان ميلوسوفيتش بطلين قوميين، كما سمعنا من الصرب الذين التقتهم محطات التلفزة الدولية. فبينما هما مجرمان في نظر العالم، نجد أن الرجلين يمثلان قمة البطولة عند من يرون في إبادة المسلمين أمرا مطلوبا من أجل صربيا العظمى، التي لأجلها أقيمت مؤسسات إجرامية بشعة تخصصت في القيام بعمليات التطهير العرقي في البوسنة وكرواتيا، وكان هتاف القوميين الصرب يدعمها بعبارات التشجيع والمديح التي ترى في هذه الأعمال الإجرامية بطولات نادرة من أجل الحلم الصربي. سخرية السياسة الدولية والقدر معا هي أن رجال صربيا المؤيدين بالتصفيق من الملايين ممن يؤمنون بالتطهير العرقي كسياسة لتحقيق حلم صربيا العظمى، لم يصلوا في النهاية إلى حلم صربيا العظمى، بل وصلوا إلى كابوس صربيا الأقل حجما، والأقل احتراما، والأقل وزنا، وكذلك تكون نهايات أحلام الطغاة.

وبينما رحب العالم كله تقريبا بخبر القبض على ردوفان كارديتش، فإن روسيا هي الدولة الوحيدة التى لم ترحب بذلك وقالت إن المحكمة مسيسة ومنحازة، بل دعت روسيا الأمم المتحدة لحل محكمة جرائم الحرب.. موقف يحاول المداراة على مجرمي الحروب باتهام المحاكم الدولية بالانحياز، بدلا من النظر إلى الأمور من منظار الضحية، وبدلا من مواجهة الجرائم التى ارتكبت. وبالطبع، ككل المجرمين، لم يعترف ردوفان كارديتش بجرائم الإبادة الجماعية، ولا بدك مدينة سراييفو بالمدافع، ووجد في صربيا وبعض الأماكن العطنة من العالم من أيدوه، وكذلك تكون زمرة الظالمين.

****

القبض على ردوفان كارديتش لم يلق في العالم العربي لا الترحيب الذي قوبل به في أوروبا ولا الإنكار الروسي، وإنما قوبل بشيء من الدهشة و«اللخبطة» ومحاولة البحث عن مؤامرة فيما حدث. وظن الكثيرون أن اعتقال كارديتش ومحاكمته ما هي إلا محاولة أوروبية لتمهيد الطريق لإلقاء القبض على الرئيس السوداني عمر البشير ومحاكمته، خصوصا أن اعتقال كارديتش جاء في جو سيطرت فيه أخبار اتهام مورينو أوكامبو، ممثل الادعاء في المحكمة الجنائية الدولية، للرئيس البشير بتدبير حملة إبادة جماعية في دارفور أودت بحياة خمسة وثلاثين ألف شخص وتسببت في تشريد مليونين ونصف المليون لاجئ. لم يتحدث العرب كثيرا عما حدث في دارفور، ولم تخرج لجنة عربية مستقلة تحاول معرفة حقائق هذا الادعاء، وإنما انبرت الأقلام والحناجر تتحدث عن «الملعوب» الدولي، وتتحدث عن أن أصل حكاية القبض على كارديتش هي أن الأوروبيين يريدون أن ينفوا عنهم تهمة التحيز ضد المسلمين فبتأييدهم القبض على كارديتش قاتل المسلمين في أوروبا سيبهتون مؤيدي البشير ومناصريه.. هذا ليس كلاما من عندي، وإنما هو حصيلة آراء مفكرين وكتاب وقراء عرب قيلت في الصحف والإذاعات وعلى شاشات التلفزة. وكما تظاهر مئات الصرب وأحرقوا الإطارات في البوسنة، وكما أعلن كثير من الصرب أيضا بأن الجرائم التى ارتكبت غير مهمة، وأن كارديتش وميلوسوفيتش هما بطلان قوميان، وكما شكك الصرب والروس في نزاهة المحكمة الجنائية الدولية، فقد تجمع آلاف المتظاهرين في الخرطوم احتجاجا على مذكرة أوكامبو وعلى المحكمة الجنائية الدولية، وتوجه المتظاهرون إلى مقر السفارة البريطانية ومقر الأمم المتحدة في الخرطوم منددين بقرار المحكمة الجنائية الدولية، صابين سيلا من الاتهامات على ممثل الادعاء في المحكمة الجنائية الدولية تخص سلوكه الشخصي. بالطبع، دارفور والبوسنة مختلفتان، والبشير وكارديتش مختلفان، والسودان وصربيا دولتان مختلفتان، ولكن يبدو أن نظاما إسلاميا قد قرر أن يقف في صف كارديتش الذي أباد المسلمين في أوروبا، لأنهما يشتركان في عدو واحد هو المحكمة الجنائية الدولية، وتلك ملاحظات جديرة بالاعتبار.

قضية البشير كرجل هو على قمة الهرم السياسي في دولة مستقلة ذات سيادة تعد هي الأولى من نوعها في مسألة محاكمة رئيس أمام المحكمة الجنائية الدولية، مع وجود حالتين مشابهتين هما الرئيس الليبيري تشارلز تايلور الذي يحاكم على جرائم ارتكبها في سيراليون، وحالة سلوبودان ميلوسوفيتش الذي حوكم لارتكابه جرائم تطهير عرقي في أراضي ما كان يسمى يوغوسلافيا سابقا، والذي مات في زنزانته قبل صدور الحكم. ولكن محاكم البوسنة، وليبيريا وكذلك جرائم الحرب في رواندا هي محاكم خاصة غير تلك التي من المقرر أن يخضع لها البشير أمام المحكمة الجنائية الدولية. لكن قضية البشير تطرح أمام القانونيين الدوليين وأمام المجتمع الدولي تساؤلات محددة وهي: من له الصلاحية القانونية في محاكمة رئيس دولة ما زال يحكم؟ وما هي الأسس القانونية لمحاكمة كهذه؟ ومن يقوم بالقبض على الرئيس، طالما أنه ليس للمحكمة الدولية قوات خاصة بالقبض على الأفراد؟ هل ستستعين المحكمة بقوات الأمم المتحدة العاملة في المنطقة بما لذلك من تبعات ردة الفعل المحلية على هذه القوات؟ هذه التساؤلات على أهميتها ليست هي القضية الأم في هذا المقال.

الموضوع اليوم هو قضية العدالة فيما يخص جرائم ارتكبت ضد الإنسانية في مجتمع دولى زاد فيه التداخل والتشابك بين ما هو محلى ويخضع لسيادة القانون المحلي وبين ما هو عابر للحدود والقوميات مما يعرضه لأن يقع تحت طائلة قانون دول أخرى أو تحت طائلة القانون الدولي. بتنامي ثقافة حقوق الإنسان في ظل العولمة، يطالب كثير من القانونيين بأن هناك أنواعا من الجرائم تستفز الإنسانية بأكملها، وأن هناك حالات يكون فيها القضاء المحلي غير قادر على القبض على المجرمين ولا على إجراءات محاكمتهم، وبالتالي يجب أن يكون من حق المجتمع الدولي أن يتدخل، والسودان حالة ما بين بين، فهي ليست دولة فاشلة بدون قضاء أو قوانين، ولا يشهد لها في الوقت نفسه بنزاهة القضاء وعدالته.. وهنا تكمن المعضلة.

في القضايا العالمية الكبرى، مثل إبادة اليهود في أوروبا وكذلك الحرب العالمية الثانية، نصبت محاكم ننونينبرج، وكان الأساس القانوني لها هو أن الجرائم التي ارتكبت هي إساءة للإنسانية جمعاء، لذا حق على المجرمين العقاب. فهل ما حدث في دارفور يرقى إلى هذا الأساس القانوني للجريمة؟ اتهامات أوكامبو لو ثبتت، فهي اتهامات خطيرة، ومن هنا يكون القبض على ردوفان كارديتش مقدمة ونذيرا للبشير؟