وما نيل الأماني بالتمنّي!!

TT

هناك ثلاثة مظاهر للتعامل العربي مع الغرب، وجميعها تحدّ من النتائج المتوخاة من هذا التعامل لصالح العرب لأسباب تتعلق بالاختلاف الجذري في البنى والمؤسسات والوسائل والأهداف والمفاهيم والقيم. مظاهر التعامل هذه هي:

أولاً: إطلاق الأحكام الأخلاقية أو اللاأخلاقية على سياسات غربية لا تدعي أنها تسترشد بالمعايير والنظم الأخلاقية التي تحظى باحترام شعوب العالم.

ثانياً: إطلاق الأحكام القانونية على ممارسات وقرارات قد أثبتت خلال عقود ماضية أنها لا تقيم وزناً للقانون الدولي أو قرارات مجلس الأمن أو غيرها إلا حين يتعلق الأمر بمصالحها وحماية مواطنيها. وهي تستخدم صفة «دولي» لهذه القوانين انطلاقاً من مفهوم أن ما يناسب الغرب ويخدم مصالحه هو المقبول دولياً، فالغرب هو مركز العالم وكلّ ما عداه يجب أن يقبل الأحكام «الدولية» الصادرة بحقه حتى وإن تكون لا أخلاقية أو لا قانونية أو مجحفة بشكل صارخ.

ثالثاً: الانصياع بتبعيّة مفرطة لتلبية المطالب الغربية ومحاولة إرضاء السلطات الحاكمة في واشنطن حتى وإن أدّت إلى الإضرار بمصالح وحقوق شعوبنا العربيّة، ولذلك فإن محاولة إرضاء العدوّ بقبول سياساته المعادية للعرب كاحتلال بلد عربيّ أو العدوان عليه أو فرض حصار همجي على شعب عربي تصل أحياناً إلى حدّ إلغاء الذات العربيّة من خلال دعم منطق المعتدي الغربيّ واستهجان تصرفات الضحيّة العربيّة. مظاهر التعامل الرسميّ العربي هذه تزيد من ضعف الموقف العربيّ وتضيف إلى وهنه وهناً، وتزيد من تشتت الموقف العربي وتشرذمه وعدم فاعليته على الساحة الإقليميّة والدوليّة. هذه المظاهر تسربت إلى الموقف الرسميّ بفعل ضغوط غربيّة منسّقة وابتزاز عسكري وسياسي شديد تتعرّض له الأنظمة والقوى والشعوب العربيّة على حد سواء. أدوات الضغط والابتزاز هذه يتمّ تسليطها عبر قنوات عديدة ومنها وسائل الدعاية الغربية الناطقة بالعربيّة، وحتى وسائل الإعلام العربيّة تستنسخها، خاصّة إذا كانت تشعر بالدونيّة تجاهها وتحاول محاكاتها وتقليدها. وأهم أدوات الابتزاز الفكريّ والنفسيّ هو تكرار دعاية ضاغطة تؤكّد أنّ النظم الغربية هي نظم أخلاقية وقانونية تعتمد العدالة مبدأ والحرية هدفاً وحقوق الإنسان قيمة لا يسمح لأحد بالتلاعب بها. ولكن واقع الحرب والتدخّلات الدمويّة في أفغانستان والعراق ولبنان والصومال والسودان والتسبب بإزهاق ملايين الأرواح البريئة، والتسبب في الذلّ والهوان لآلاف الأنفس البشرية البريئة في غوانتانامو وأبو غريب والسجون السرية الطائرة، وبعد أن بنت «إسرائيل» مستعمراتها على أنقاض القرى والمدن الفلسطينية، كيف يمكن لأحد أن يفكّر في أخلاقيّة واستقلاليّة ونزاهة النظم السائدة في الغرب؟

من الواضح أن بعض العرب الذين تبنوا هذه الأساليب لم يتبنوها عن عدم إدراك لحقيقة الصراع أو عدم فهم لحقيقة المواقف الغربيّة خاصّة عندما تشذ هذه المواقف عن القيم والأعراف الأخلاقيّة الدوليّة، ولكنهم تبنوها نتيجة شعور بالضعف ناجم من ضعف البنى الشعبيّة الداعمة عبر مؤسسات تمثيل دستوريّة، ولذلك فإنّ كلّ ما يتمكنون من فعله بعد ذلك هو الظهور بمظهر الحريص واستجداء العدالة والكرامة من الآخر اللتين لم يحققهما أحد في التاريخ عن طريق التوسل أو التمني. وبعض هذه الأحكام ينطلق من عدم دراية بأسلوب الحكم في الغرب، وتطبيق المعايير العربية عليه، ولذلك تأتي النتائج مغايرة تماماً للتوقعات وبعيدة كلّ البعد عن الأحلام الوردية التي أشيدت عليها.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، يرفض العرب أن يؤمنوا بمسلمّة أن الأنظمة الغربية في معظمها تشبه الآلة التي تضع بها أي مدخلات كانت فتأتي المخرجات مطابقة للمواصفات. ولذلك ليس من المهم جداً فيما يخصّ الشرق الأوسط التغيير الذي يجري في الأشخاص داخل الإدارات والحكومات الغربيّة لأنّ المعيار الأساسي بالنسبة لكلّ هذه الحكومات والأنظمة هو دعم الكيان الصهيوني في كلّ ما يرتكبه ضد العرب. والمعيار الآخر هو أن «إسرائيل» تعيش في «بيئة معادية جداً»، كما قال باراك أوباما، «وأناس كثيرون يعلنون أن إسرائيل هي العدو».

في هذه العبارة ينطلق المرشح الديمقراطي لرئاسة الولايات المتحدة من منطلق أن إسرائيل هي المركز وهي المحقّة دوماً حتى وإن كانت على أنقاض إبادة شعب فلسطين وتهجيره وحرمانه من الحريّة والديمقراطيّة وحقوق الإنسان. حتى من صنع سلاماً معها صنّفهم أوباما ضمن «البيئة المعادية» ومن حقها أن تضرب وتقتل وتهاجم كلّ ما يقلقها أو تشتبه في أنه يهدّد أمنها ومستقبلها.

لقد أنفق العرب آلاف الساعات وكتبوا آلاف المقالات في الصحف عن أي المرشحين سيفوز في الحزب الديمقراطي والجمهوري، وسينشغلون للأشهر القادمة بفرص أوباما وفرص ماكين. وها هو أوباما يستبق فوزه بالمزاودة حتى على الإسرائيليين في موضوع الصراع العربي الإسرائيلي. وقول أوباما كلاما من قبيل «أن القدس عاصمة لإسرائيل»، وزيارة الجدار الغربي، ومواقف وتصريحات متطرّفة أخرى لا يمكن لماكين أن يضيف عليه شيئاً. المبالغة غير المسبوقة لهذه التصريحات حدت بمحللّ الشؤون الدبلوماسية بصحيفة «هآرتس» الإسرائيلية عكيفا ألدار أن يكتب مقالاً يوم الأربعاء الماضي يدعو فيه أوباما إلى «مطالبة إسرائيل بتقسيم القدس بين العرب واليهود» وتقسيم البلاد إلى دولتين «إن كان محباً للسلام»، واختتم ألدار أن «أي رئيس أمريكي قادم يحافظ على إسرائيل ويريد مصلحتها حقاً، لن يهدأ ولن يستكين حتى نحتفل بتقسيم القدس إلى عاصمتين، وتقسيم البلاد إلى دولتين». مقال ألدار هذا نابع من قلقه من تنامي أعمال المقاومة للاحتلال نتيجة «سن القوانين والتشريعات وفرض القيود الإدارية وبناء الجدار الفاصل ومصادرة الأراضي والإساءة للسكان الفلسطينيين».

والسؤال هو: لماذا سارع العرب إلى الافتراض بأن أوباما سيساند العدالة ويتحيز لحقوق الإنسان ضدّ الاحتلال والعدوان؟ أوليس السيناتور الشاب نتاج النظام الأمريكي الذي أغدق عليه اللوبي المعروف الملايين من أجل انتخابه، وأوليست الانتخابات مسرحية سياسيّة إعلاميّة متقنة اعتدنا على مشاهدتها كل أربع سنوات تعمل على خدمة المصالح الأمريكية وتعزيز دور المؤسسات بغض النظر عن الأطر الأخلاقية والقانونية التي مازال الغرب يتحدثون عنها كبديل مريح عن العمل الجاد والصعب والضروري لوضع أنفسهم على الساحة الدولية كعامل مؤثر وقوي يستخدمون من أجله ثرواتهم وتاريخهم وموقعهم الجغرافي كي يبرهنوا للعالم أنّهم قادرون على صنع السلام فعلاً. أوليس من المخجل عربياً أن تصدر بريطانيا واسبانيا مذكرات اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين سابقين بتهمة ارتكاب جرائم حرب بحق الشعب الفلسطيني بينما تتمكن هذه الشخصيات من التنقل بحرية في بعض البلدان العربية! لقد برهن الزمن أن منطق الضعف والاستجداء لا يجدي نفعاً مع أي من الطغاة الغزاة طوال تاريخ العرب، وأنّ أي قدرة لم تكن لتتمكن من إطلاق سراح سمير القنطار ورفاقه واستعادة جثامين مئات الشهداء لولا أعمال المقاومة التي تصدّت لقوى الاحتلال والعدوان.

في خضمّ هذه الصراع الفكري والسياسي واللغوي الاستراتيجي الذي يخوضه العرب نجد القوى العربية، منشغلة بحسابات داخلية صغيرة ومصالح مجتزأة ناسية أو متناسية المسائل الجوهرية التي تؤثر فيها، وفي الصميم. من الخطأ الافتراض مثلاً أن دعم الشعب الفلسطيني والعراقي أو أي شعب عربيّ واقع تحت الاحتلال هو منّة ٌ من أحد بل هو واجب تجاه الذات والأبناء ومستقبلهم أولاً، تماماً كما كان الطفل الفلسطيني في الانتفاضة الأولى يخاطر بعمره الفتيّ من أجل كرامة العرب. وهذا ليس مجازاً فلو وقف العرب وقفة رجل واحد مع فلسطين في انتفاضتيها الأولى والثانية، ربما لم يكن العدوّ قد تجرّأ على احتلال العراق والعدوان على لبنان وتفتيت الصومال والاستحواذ التدريجي على السودان. العرب جميعاً كما صرّح أوباما وبطلاقة يشكّلون «البيئة المعادية» لـ«إسرائيل» الطامحة إلى التوسّع والهيمنة، لا يتحقّق هذا التوسّع إلا بعد تحقيق صمت العرب المطبق بطريقة أو بأخرى. وسواء أدان مسؤولون عرب عملية القدس مثلاً أم لم يدينوها فإن هذا لن يغيّر من الملفات المعدة بحقهم شيئاً. في حالة العجز العربية هذه تحتضن المرأة الفلسطينية جذع شجرة الزيتون لتمنع الجرافة من اقتلاعها. كما تصوّر الطفلة سلام كنعان جريمة إطلاق جندي إسرائيلي النار بدمٍ بارد، وأمام نظر العالم وبوجود زملائه على المعتقل الفلسطيني أشرف أبو رحمة، وهو معصوب العينين ومكبل اليدين في نعلين وترفض بيع الشريط لإحدى القنوات، وتفضل نشره في وسائل الإعلام كلها «كي يرى العالم عذاباتنا». كما قرر الطفل مرهف الصحناوي من سورية السير على الأقدام إلى الحدود اللبنانيّة للترحيب بالأسير المحرر سمير القنطار. ليس أمام العرب من خلاص سوى طريق الحريّة، وهو ما لن يحقّقوه بالتمنّي بل تؤخذ الدنيا، كما كانت دوماً، غلابا.

www.bouthainashaaban.com