الجهود التنموية في صربيا

TT

بعد 13 عاماً من الإنكار المقيت والبدايات الكاذبة، والوعود التي تم الحنث بها، اتخذ قادة صربيا أخيراً الخطوة التي سبق وأن نعتوها بالمستحيلة، ففي يوم الاثنين ألقت الشرطة القبض على رادوفان كراديتش، أحد الهاربين المدانين بارتكاب جرائم حرب في يوغسلافيا السابقة.

عام 1990، عندما كنت أعمل مراسلة وعنيت بتغطية الأحداث داخل يوغسلافيا، بدا كراديتش كشخصية سياسية معارضة. وكان في الأصل طبيبا نفسيا يتميز بقدر كبير من الذكاء، ويميل لإلقاء الأشعار التي يضعها. لكن مع انزلاق البوسنة نحو هاوية الحرب على امتداد العامين التاليين، طرأ تحول واضح على كراديتش. وأثناء لقاء لي معه في فندق بانورما، تباهى كراديتش بأنه أصدر للتو عملة خاصة به. وبدت فكرته حول إصدار بلاده لعملة خاصة بها منافية للعقل. ورغم ذلك، بدا على وجهه أنه يتحدث بجدية تامة.

ولا ينبغي بأي حال من الأحوال التقليل من أهمية إلقاء القبض على كراديتش، خاصة أنه يشكل أكثر من مجرد إغلاق أحد الفصول التاريخية الدموية، حيث يعد مؤشراً على المسار المستقبلي لصربيا. ومن الواضح أن الحكومة المؤلفة حديثاً داخل بلغراد تعمل على تأكيد أنها جادة في رغبتها ضم صربيا إلى الحظيرة الأوروبية.

يذكر أنه عندما كنت في زيارة إلى بلغراد منذ بضعة أسابيع ماضية، بدا لي بوضوح مدى شدة احتياج صربيا لبدء صفحة جديدة مع الولايات المتحدة أيضاً. على سبيل المثال، حملت الجدران عبارات تقول: «باراك أوباما.. كن معنا دائماً». أما الصحيفة الرئيسة على مستوى البلاد، فنشرت كتاب المرشح الرئاسي الديمقراطي الذي يحمل عنوان «جرأة الأمل» في شكل حلقات. ويتضح من ذلك أن صربيا قطعت شوطاً طويلاً بعيداً عما كانت عليه في مطلع التسعينيات، عندما كان كراديتش الزعيم السياسي الأكبر لصرب البوسنة وحاول، إلى جانب الزعماء الكروات، استخدام القوة العسكرية في تقسيم إقليم البوسنة والهرسك، وخلق دول نقية من حيث العرق الذي ينتمي إليه سكانها. وأشرف كراديتش بنفسه على عملية صنع القرار التي أسفرت عن تشريد 1.5 مليون نسمة، عبر مناطق واسعة من إقليم البوسنة والهرسك بدءًا من أواخر مارس (آزار) 1992. واستخدم الصرب في ذلك قوة نيران هائلة بهدف طرد المسلمين وأبناء الأقليات الأخرى من المدن والقرى التي يقطنونها، وتعمدوا في إطار هذه المحاولات إعدام أكبر عدد ممكن من الرجال وترحيل النساء والأطفال وكبار السن في حافلات وسيارات وقطارات.

وترأس كراديتش صربيا خلال سنوات الإرهاب في سراييفو، عندما دمرت عملية القصف الصربية أحياء كاملة مزدحمة بالسكان، واستهدف القناصة الصرب الأفراد العاديين أثناء عبورهم الشوارع. وفي ظل رئاسته، ظهرت معسكرات الاغتصاب. ثم جاءت مذبحة سربرنيتسا عام 1995، وهي مدينة تقع شرق البوسنة، وكانت تضم 40 ألف مسلم، معظمهم من اللاجئين الذين كان من المفترض أنهم تحت حماية الأمم المتحدة. في إطار المذبحة، شن كراديتش والقائد العسكري الأول لصرب البوسنة، الجنرال راتكو ملاديتش، هجوماً ضد سربرنيتسا وأعدموا قرابة 800 رجل وصبي تم أسرهم، ووضع أعصبة على أعينهم وتقييد أيديهم.

يذكر أن المحكمة الجنائية الدولية التي شكلتها الأمم المتحدة فيما يخص الجرائم التي وقعت في يوغسلافيا السابقة، دانت كراديتش وملاديتش في منتصف عام 1995، وتم توسيع نطاق الاتهامات الموجهة إليهما لتشمل مجزرة سربرنيتسا بعد ذلك بعام.

ثم بدأت رحلة الانتظار الطويل مع اختفاء كراديتش وملاديتش، رغم ظهور الأخير من حين لآخر. وعلى امتداد ما يزيد على اثني عشر عاماً، تهرب القادة الصرب من مسؤوليتهم تجاه إلقاء القبض على كراديتش وملاديتش ـ بل وأنكر بعضهم وقوع مذبحة سربرنيتسا من الأساس.

وحتى شهور قليلة ماضية، بدا المشهد السياسي الصربي مظلماً مع خروج متظاهرين قوميين إلى شوارع بلغراد، وهاجموا سفارات الولايات المتحدة والدول الأخرى التي اعترفت بكوسوفو، وهي إقليم كان يتبع الصرب فيما مضى وينتمي ما يزيد على 90% من سكانه إلى أصول ألبانية، وأعلن الإقليم استقلاله في فبراير (شباط).

آنذاك، دعا رئيس الوزراء، فيوسلاف كوستونيكا، الذي تشبه توجهاته السياسية توجهات كراديتش، إلى إجراء انتخابات برلمانية في مايو (أيار) على أمل أن يستغل موجة الغضب العارمة حيال استقلال كوسوفو وتمتلئ صفوف الحكومة بالعناصر القومية المتطرفة. لكن اتضح أن حساباته كانت خاطئة تماماً، ذلك أن الصرب، بعد عقدين، ملوا أخيراً من الحمى القومية التي قضت على يوغسلافيا القديمة. وخرجت الأحزاب المؤيدة للاندماج مع أوروبا منتصرة من الانتخابات.

ومن بين العوامل الجوهرية التي أثرت على هذا التحول، كان قرار الاتحاد الأوروبي الدخول في «اتفاق لتحقيق الاستقرار والتعاون» مع صربيا، وهي خطوة أولى محتملة نحو نيل عضوية الاتحاد. ومن بين أهم النتائج المترتبة على الاتفاق تخفيف الاتحاد الأوروبي من صرامة الشروط الخاصة بحصول الصرب على فيزا لدخول أراضيه، بعد أن تعرض الصرب فعلياً للحرمان من السفر على امتداد فترة تجاوزت العقد.

يذكر أنه في الأسبوع السابق، قام الرئيس بوريس تاديتشط بتعيين رئيس جديد لجهاز الشرطة السرية، بحيث أصبح جهازا الشرطة المدنية والسرية للمرة الأولى في تاريخ صربيا، تحت سيطرة أحد أنصار الديمقراطية من الموالين للغرب، وبعيداً عن نفوذ القوميين. وكان إلقاء القبض على كراديتش النتيجة المباشرة المترتبة على هذه الخطوة المهمة.

والآن، يتحتم على صربيا تسليم آخر مطلوبين لدى محكمة جرائم الحرب ما زالا هاربين وهما: ملاديتش وجوران هاديتش، الزعيم السابق للمتمردين الصرب بالجزء الشرقي من كرواتيا. أيضاً، يتعين عليها الاعتراف باستقلال كوسوفا ـ وإن كان ذلك يعد بمثابة انتحار سياسي على المدى القصير، حيث ينظر كثير من الصرب إلى كوسوفا إلى الإقليم، باعتباره مهد أمتهم. بيد أن الحكومة الجديدة تعد بإبداء قدر أقل من العداء تجاه كوسوفو، وعرضت الاضطلاع بدور إيجابي في تحقيق الاستقرار داخل الإقليم.

في المقابل، ينبغي أن يشرع الاتحاد الأوروبي في تنفيذ اتفاق تحقيق الاستقرار والتعاون مع صربيا. وينبغي على كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، توجيه مساعدات مالية لتعزيز التعليم والبنية التحتية في صربيا.

* خدمة «لوس أنجليس تايمز»

خاص بـ «الشرق الأوسط»