سبتة ومليلية آخر المستعمرات

TT

مع فلسطين ومالفيناس (فوكلاند)، ليست هناك من أرض مستعمرة من قبل الغير، سوى مدينتي سبتة ومليلية، وصخور غير مأهولة في الساحل المتوسطي للمغرب. ويثير الاستغراب أحيانا أن الكلام عن تلك المواقع لا يتردد إلا حينما يطفو الخلاف بشأنهما على سطح العلاقات المغربية ـ الإسبانية. ومن دواعي الاستغراب أيضا أن هذا الخلاف غير مشمول بمداولات لجنة تصفية الاستعمار، التي تبذل جهود حثيثة ـ ولنترك الفعل هكذا مبنيا للمجهول ـ من أجل أن تبقى مسجلة في جدول أعمالها مسألة الصحراء التي جلا عنها المستعمر في فبراير (شباط) 1976.

إلا أنه في كل سنة، يكرر المغرب مطالبته بالمواقع المذكورة، في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، ويعقب على ذلك ممثل إسبانيا في نطاق حق الرد، ليؤكد أن مطالبة المغرب ليست في محلها، لأن المدينتين إسبانيتان. ويضيف أحيانا إلى ذلك مزحة: إنهما إسبانيتان من قبل أن يوجد المغرب كدولة.

وقلما يثير ذلك التمرين الروتيني الانتباه، لأن البلدين حريصان على تناسي خلافاتهما بهذا الشأن، لفائدة إبراز تفاهمهما في كثيرٍ من نقاط التعاون والتبادل الأخرى. ولا يخلو لقاء إسباني مغربي رسمي أو شعبي، من تمرين مماثل. أذكر أنني ذات مرة كنت في مقر حزب التحالف الشعبي، الذي تحول إلى الحزب الشعبي، وقمت باستعراض المسائل التي تهمنا معاً كبلدين جارين، ومنها وضع سبتة ومليلية. وفي الرد عقب مضيفي على ما قلت، وحينما عرج على موضوع المدينتين، قال أما بخصوص المسألة التي ذكرت، فأنت تعلم أن وجهة نظرنا بشأنهما مختلفة. فلم يذكرهما حتى بالاسم.

وكتب لي أن أشارك في محفل رسمي كنت فيه ضمن الجانب الحكومي المغربي، وحدث نفس الشيء. أتى المسؤول المغربي على ذكر المدينتين، وعقب الجانب الإسباني بأنه من المعلوم أن وجهة نظرنا مختلفة جذريا حول الموضوع. وجرت العادة أن ينتقل الكلام إلى باقي جدول الأعمال، تبعا لطقوس ثابتة. المغرب لا يفوته تسجيل الموقف، وإسبانيا تؤكد أطروحتها.

وحدث في 2004 أن الملك محمد السادس استقبل رئيس الحكومة الإسبانية الحالي حينما فاز بالأغلبية لأول مرة، ولم تتم، حسب المصادر الإسبانية، تلك الإشارة التقليدية ولم يحتج ثاباطيرو إلى التعقيب المعتاد. وبناءً على ذلك، حدث أن أساء الجانب الإسباني التأويل، وتصور أن للملك الجديد مقاربة جديدة، وبنى على ذلك التأويل السيئ تصورا خاطئا. وأفظع الأزمات تحدث بسبب تصورات تبنى على تأويل خاطئ.

وهذا ما أدى إلى الأزمة التي نشبت بسبب زيارة الملك خوان كارلوس إلى المدينتين، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، فضلا عن زيارة ثاباطيرو نفسه، وذلك في إطار التسابق الانتخابي القائم بين الحزبين الكبيرين الاشتراكي والشعبي.

ولا يخفى أن استمرار احتلال المدينتين من قبل إسبانيا يكدر العلاقات. ويبدو أنه لا مفر من أن تتعرض العلاقات الودية المغربية ـ الإسبانية إلى مطبات، ولكن بصفة عامة، تعودت العلاقات الثنائية على امتصاص الصدمات. وكتبت غداة الانتخابات التشريعية الأخيرة في إسبانيا أنه ينتظر في الأربع سنوات القادمة أن تكون العلاقات بين الرباط ومدريد بحراً هادئاً «إلى قليل الهيجان». والمقصود هو أن درجة الهيجان لن تحول دون أن تستمر العلاقات متدفقة بشكل إيجابي.

عمل الحزب الاشتراكي دائما على تطعيم العلاقات الثنائية بالثقة المبنية على الاحترام. وهذا شيء ينقص اليمين الذي تحركه العقد، على عكس اليسار الذي يغلبه تراثه، بحكم أنه يتقمص رسالة. والحزب الشعبي لم يخترع من العدم موقفه المتحفظ من المغرب، لأن التحفظ من الضفة الجنوبية للمضيق، الذي يحمل بالذات اسما مغربيا، تراث منتشر في الأوساط الشعبية. ورغم النظرة المستقبلية للحزب الاشتراكي فلابد أن يراعي صناديق الاقتراع، ولهذا كان هو الذي سن في المدينيتن، سنة 1985، قانون الأجانب الذي خير مغاربة الثغرين بين أن ينتحلوا الجنسية الإسبانية أو أن يعتبروا أجانبَ. وهو الذي سن عام 1995 القانون الذي يعطي للمدينيتن الحكم الذاتي. ورغم ذلك، فإنه لم يحسن مواقعه الانتخابية.

ويراهن المغاربة على أن تنضج الظروف في إسبانيا نفسها لكي يسود الاقتناع بأن الحفاظ على المدينتين عبء اقتصادي وسياسي. و منذ أن اعتلى محمد السادس على العرش شرع في مسلسل نشيط ودؤوب، يرمي من ورائه إلى أن يدفع المغاربة دفعا للعودة إلى البحر الأبيض المتوسط. وقد قطعت أشواطا مهمة سياسته الرامية إلى تحسين الواجهة المتوسطية للمغرب. وبمناسبة تقديم مرشحنا الحزبي في مدينة المضيق شمال مدينة تطوان، سنة 2002، كنت قد قلت إن العمل الجدي لاسترجاع الثغرين بدأ ببناء قطب اقتصادي في الفضاء المحيط بسبتة وآخر في محيط بمليلية.

والواقع أنه يجب أن يحدث أمران، أن يشعر مغاربة الثغرين، بأن التحاقهم بالمغرب يعني تحسنا في وضعهم الاقتصادي والسياسي، وليس هذا هو الحال الآن، لأن الخصاص والارتباك في الجنوب يوازيهما الازدهار والتفوق في الشمال. والأمر الثاني هو أن يشعر المستوطنون الإسبان بأن الرحيل هو أفضل لهم. كما يجب أن تدرك إسبانيا أن التكلفة السياسية والاقتصادية للمستعمرتين، لا تجدي لحقن اقتصادهما المصطنع، بمقومات الحياة.

وقد أحس الإسبان بأن ميناء طنجة المتوسطي الذي بناه المغرب، يخلق وضعا جديدا. وباتوا يشعرون بأنه بعد سنتين ستنمحي الفوارق الجمركية بين المغرب والاتحاد الأوربي، وستنقطع المداخيل الحالية التي يدرها التهريب نحو المغرب.

وبعد كل ما أفرغته حكومة مدريد في المدينتين من استثمارات ضخمة في الخمس سنوات الماضية، يجري الحديث عن رصد ميزانية استثنائية للسنة القادمة، وفاءً بوعودٍ التزمها ثاباطيرو في الانتخابات الأخيرة بضخ مزيدٍ من الدعم.

ولكن يستمر الوضع مهزوزا. فبمجرد إعلان عزم الحكومة تقليص عدد الجنود المرابطين في المدينتين المحتلتين، ظهر أن ذلك الإجراء يشكل ضربة قوية للبنية السكانية (لا أقل من 10%). ومعلوم أن الصخور غير المأهولة المنتشرة في الساحل المتوسطي للمغرب (صخرة باديس، وصخرة النكور، وأرخبيل ملوية) تحتاج إلى تزويد طاقم الحراسة فيها بالماء من البر الإسباني، وهو واقع يتحدى العقل.

هناك موعدان ضاغطان: انتهاء رفع الحواجز الجمركية بين المغرب والاتحاد الأوربي، واكتمال المشاريع التنموية المغربية في محيطي الثغرين المحتلين. ولهذا نشرت في 2005 مادة غزيرة عن احتمال الوصول إلى تفاهم بين المغرب وإسبانيا حول مستقبل المدينتين قبل سنة 2010، بما في ذلك التكهن باقتسام السيادة لفترة تسبق التسوية النهائية، كما راج بشأن جبل طارق.

وفي انتظار الحسم، ستستمر حالة احتداد الأعصاب الحالية التي عبرت عنها صرخة رئيسة الغرفة التجارية في سبتة حين قالت إن الحالة تمثل وضعا (تنتهي صلاحيته في 2012).

في 1760 كان الملك محمد الثالث قد تفقد سبتة عن قرب، واستنتج أنه نظرا لمناعتها، «لا مطمح فيها إلا بالجد»، وأرجأ أمرها إلى يوم ما، لعله حل الآن. وبعد 11 عاما، قام بمحاصرة مليلية. وكان قد راود داي الجزائر لتدبير هجوم متزامن، من طرفه هو على مليلية، ومن طرف الجزائر على وهران. ولكن بسبب نكث الجيران الشرقيين لم يقع الهجوم على وهران، ولم يحدث الضغط المنشود.