بديل أوسلو الآخر؟!

TT

لم يقدر أبداً لا للشعب الفلسطيني، ولا للشعوب العربية، أن تفحص نتائج ما جرى خلال خمسة أعوام حدث فيها اتفاق أوسلو فيما يتعلق بثلاثة أمور رئيسية: مدى التخلص من الاحتلال، عملية بناء مؤسسات الدولة الفلسطينية، ودرجة التحسن في أحوال الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة. وكان هذا التقييم ضرورياً لأن الحركات القومية والإسلامية ادعت دوما ليس فقط أن أوسلو لم تحقق شيئا، وإنما أصرت على أن لديها الطريق الناجع لتحقيق التحرير واستقلال الدولة والوصول بالشعب الفلسطيني الى غاياته في التقدم والرخاء. والحقيقة أن الصراع أو الخلاف بين المنهجين المعتدل والراديكالي كان موجودا منذ بداية القضية الفلسطينية، ومن الناحية التاريخية كان للمنهج الشعبوي والراديكالي دائما الغلبة وعلو الصوت والتباهي الأخلاقي والسياسي بالحفاظ على الأهداف القومية حتى ولو كانت تضيع كل يوم.

ودون الدخول في تفاصيل كثيرة، فإن منهج أوسلو استمر لمدة خمس سنوات تقريباً منذ بدأ الانسحاب الإسرائيلي الأول من غزة وأريحا، ومرت التحركات بعد ذلك بنوبات صعود وهبوط حتى فشل مؤتمر كامب دافيد الثاني في أغسطس (آب) 2000، ومن بعده، نشبت الانتفاضة الفلسطينية اعتبارا من 28 سبتمبر (أيلول) من ذات العام في صيغتها السلمية والمسلحة لكي تستمر قرابة خمس سنوات أخرى وتسيطر على الساحة الفلسطينية وسعي الشعب الفلسطيني لتحقيق أهدافه. وبالطبع، فإن الأمر لا يخلو من تعقيد، ففي الأوقات التي ساد فيها منهج التسوية ـ أو عملية أوسلو ـ فقد كانت هناك تدخلات كبيرة ومؤثرة لأنصار المنهج الراديكالي من خلال عمليات عنيفة ضد الإسرائيليين استهدفتهم ومعهم العملية السلمية كلها؛ كذلك فإنه في أوقات الانتفاضة والعمليات الانتحارية كانت هناك دائما محاولات للتهدئة والتسوية من أولى توصيات لجنة ميتشيل التي قادها جورج عضو مجلس الشيوخ الأمريكي الأسبق، وحتى خريطة الطريق التي أعدتها اللجنة الرباعية. وظل الحال كذلك حتى انقسمت الساحة الفلسطينية الى فريقين ودولتين وسياستين وإستراتيجيتين؛ واحدة في رام الله تحاول التسوية من خلال التفاوض مع إسرائيل، والأخرى في غزة تحاول المقاومة من خلال إطلاق الصواريخ على المستعمرات الإسرائيلية القريبة، وربما يحتاج تقييمهما الى مقال آخر، ولكن المؤكدَ أن النتيجة هي أن الشعب الفلسطيني لم يعد يحصل على شيء، والقضية الفلسطينية لم تعد تتقدم خطوة واحدة. وهكذا على سبيل التبسيط، كانت هناك خمس سنوات للتسوية، وخمس سنوات أخرى للقتال، وكان نتيجة الأولى من حيث الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي الفلسطينية ملحوظة حيث فقد الإسرائيليون سيطرتهم على حوالى 42% من أراضي الضفة الغربية وغزة، وبسط الفلسطينيون سلطتهم لأول مرة في التاريخ على مساحة متواضعة من أرض فلسطين؛ قدرها حوالي ألف كيلومتر مربع. وفي هذه المساحة الصغيرة من الأرض، أصبح للفلسطينيين عنوان يذهب اليه قادة الدول، ويكون مكانا للتمثيل الدولي. وفي السنوات الخمس التالية، انتهى الأمر الى إعادة احتلال كل هذه الأراضي مرة أخرى، وعندما تحقق انسحاب من غزة، أو مناطق من الضفة الغربية، أبقت إسرائيل في يدها كل مفاتيح التحكم التي جعلت الاحتلال أكثر رحمة. وفي السنوات الخمس الأولى استمر الاستيطان بلا توقف، وفي الثانية استمر كذلك وبسرعة وكثافة أكبر. وبينما كان الفلسطينيون في الفترة الأولى حاصلين على تعاطف دولي كبير ظهر في معونات هائلة قدمتها الدول والمنظمات الدولية؛ فإن العالم تجاهلهم تماماً في الفترة الثانية بل تحولت كثير من الدول من جانب التعاطف الى ناحية العداء.

وفي الفترة الأولى جرت الانتخابات الرئاسية الفلسطينية، ومن بعدها انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني تحت إشراف ورقابة دولية. ومع هذا وذاك قامت مؤسسات قضائية ومالية، ونظم تعليمية وصحية وأمنية فلسطينية؛ وبالتالي سدت نقصاً خطيراً في حركة التحرر الفلسطينية حيث كان الفارق الأساسي بينها وبين الحركة الصهيونية قبل حرب 1948 هي أن الأخيرة نجحت في بناء مؤسساتها المختلفة وعلى درجة عالية من الاحتراف والديمقراطية، بينما رفض العرب ذلك خوفا من إعطاء «الشرعية» للاحتلال البريطاني وشروط الانتداب فكانت النتيجة ضياع فلسطين. وفي الفترة الثانية جرى العكس تماماً، فمن الناحية العملية فقدت الرئاسة الفلسطينية معظم مهابتها وقيادتها، وتمزقت المؤسسات الأمنية الفلسطينية، وتعطلت معظم المؤسسات الفلسطينية بشكل أو آخر، وأقامت حماس سلطات قضائية موازية، وبشكل تدريجي أصبحت لدينا دولتان فلسطينيتان كلتاهما تحت الاحتلال، وتخضعان تماما للسيطرة والهيمنة الإسرائيلية.

أحوال الشعب الفلسطيني تغيرت تماما في المرحلتين. وما بين عام 1994 وعام 2000، زاد الشعب الفلسطيني بحوالي 900 ألف نسمة بزيادة قدرها 39%، وهي نسبة أكبر بكثير من نسبة الزيادة السكانية ولا يمكن فهمها إلا في ظل عودة عدد كبير من الفلسطينيين بمهاراتهم وقدراتهم العقلية والمالية وخبرتهم الدولية حيث وجدوا لأنفسهم أخيراً وطنا في طريقه الى الدولة. وطبقا لأرقام مكتب الإحصاء الفلسطيني ومعهد بحوث السياسات الاقتصادية الفلسطينية وصندوق النقد الدولي، فإن الناتج المحلي الإجمالي للضفة الغربية وقطاع غزة ارتفع من 3.283 مليار دولار عام 1994 الى 4.939 مليار دولار عام 2000 بزيادة قدرها حوالي 50% حيث نما الاقتصاد الفلسطيني بنسبة 6% في العام الأول، و2% في العام الثاني و12% في العام الثالث والرابع و9% في العام الخامس؛ ولكن العام السادس 2000 حيث حدثت الانتفاضة انخفض الناتج المحلي بنسبة ـ 5%. وخلال هذه السنوات الخمس، انخفضت البطالة من 23% الى 15%؛ أما نسبة الفقر، فقد انخفضت من 27% الى 21%.

السنوات الخمس التالية من 2000 الى 2005، شهدت حالة أخرى مختلفة تماما للشعب الفلسطيني حيث زاد عدد السكان من 3.2 مليون نسمة الى 3.8 نسمة بنسبة زيادة قدرها 18% فقط وهو قدر الزيادة الطبيعية حيث لم تعد فلسطين تجتذب أيا من أهلها في المنفى؛ أما الدخل المحلي الإجمالى فقد انخفض من 5.095 مليار دولار عام 1999 ـ آخر الأعوام قبل الانتفاضة ـ الى 4.044 مليار عام 2005 بنسبة انخفاض قدرها 20% تقريبا، وارتفعت نسبة الفقر من 21% عام 1999 الى 44% عام 2005، أما نسبة البطالة، فقد ارتفعت مرة أخرى من 15% الى 23%.

المقارنة هكذا واضحة ولا تحتاج الى إثبات كبير أو برهنة أكثر، فالأرقام والوقائع تتحدث عن نفسها، وهي أن منهج الاعتدال والتواصل مع العالم والتعامل معه كما هو وليس كما نتمناه، والأهم من ذلك كله استخدام القوة والعنف بحسابات سياسية وإستراتيجية حيث تكون الحرب ممارسة للسياسة بوسائل أخرى، كان أكثر إنجازا ولو أعطيَّ الفرصة لربما كان لدينا دولة فلسطينية مستقلة الآن، ولما كان هناك ذاك القدر من الاستيطان. أما المنهج الراديكالي الذي يسعى لتحقيق أهدافه من خلال المواجهة مع العالم والقوى المسيطرة فيه، واستخدام القوة العسكرية بهدف الانتقام وشفاء الغليل وليس تحقيق أهداف سياسية، والمطالبة بالحد الأقصي وما دونه لا يقل عن الهزيمة؛ فهو الذي انتهى في النهاية الى ضياع كل شيء.

وكما قلنا، فإنه لا يوجد هناك جديد في ذلك بالمرة، فقد كان الخلاف بين المعسكرين موجودا منذ تبلورت الحركة الوطنية الفلسطينية مطلع العشرينات، ولم يكن ذلك لخلاف حول التضحية أو الفداء أو استخدام القوة، وإنما كان الخلاف حول الأهداف الممكنة في ظل توازن القوى القائم، وحول العلاقة بين استخدام القوة والسياسة حيث كان المعسكر المعتدل يعرف حدود القوة، أما المعسكر الراديكالي فقد كان لا يعرف لها حدودا، معتقدا أنه في تصاعدها من التحركات الجماهيرية وحروب العصابات والعمليات الإرهابية حتى وصل الى العمليات الانتحارية يستطيع أن يحقق الأهداف الفلسطينية كلها. ومن الناحية التاريخية، فقد كانت الكلمة النهائية للمعسكر الراديكالي فهو الذي رفض المشاركة في المجالس التشريعية في الثلاثينات، وهو الذي رفض الكتاب الأبيض عام 1939، وقرار التقسيم عام 1947، وكامب دافيد 1978، وأخيرا اتفاقيات أوسلو 1993 وما بعدها. لماذا كان الحال كذلك ربما يعود الى طبيعة الخصم الصهيوني، وربما يعود الى أن حركة التحرر الوطني الفلسطيني لم تنضج أبدا، ولذلك فإنها اليوم أبعد عن الدولة المستقلة والحرة عما كانت عليه في أي وقت مضى!.