الحرب على الإرهاب بين جزرة جيلاني وعصا البيت الأبيض

TT

اختلاف الاستراتيجيات بين الحلفاء في منطقة جنوب آسيا حول الكيفية التي يمكن التعامل بها مع ملف تنامي العناصر المسلحة سواء في عمق الجنوب والشرق الأفغاني أو على الحدود المشتركة بين باكستان وأفغانستان، حيث تحتفظ الأخيرة بشريط قبلي يمتد طوله إلى أكثر من 1700 كم هي طول الحدود الفاصلة بين الجارتين باكستان وأفغانستان، إذ يصنف المسؤولون الأميركيون هذا الخط بأنه الأخطر على الإطلاق نظرا لإيواء عناصر وقيادات نشطة في تنظيم القاعدة وحركة طالبان.

هذه المنطقة بتعقيداتها العرقية والإثنية والجغرافية والتاريخية أصبحت في مرمى الهدف الأمريكي الذي يفكر في اقتحامها عسكريا.. فبعد قدوم حكومة ائتلافية يترأسها رئيس الوزراء يوسف رضا جيلاني وتسلمه عبر المفاهيم الدستورية مقاليد السلطة التنفيذية في باكستان وابتعاد الرئيس مشرف ـ حليف واشنطن الأول ـ في المنطقة ـ على الأقل في الوقت الراهن عن عملية اتخاذ القرار التنفيذي، فضلت حكومة جيلاني الخروج عن مسار الطاعة الأمريكية والخط الذي رسمته واشنطن لشن الحرب الدولية على الإرهاب وفضلت تقديم الجزرة للفصائل المسلحة التي تعمل تحت لواء حركة طالبان باكستان بزعامة رجل الحرب المتمرس بيعة الله محسود، وذلك رغم التقارير الأمنية الباكستانية والدولية التي وجهت أصابع الاتهام إلى بيعة الله وحملته مسؤولية اغتيال بينظير بوتو زعيمة حزب الشعب الراحلة.

الجزرة الباكستانية لم تلق ترحيبا من قبل واشنطن ولا حليفتها كابول، وسرعان ما أبدتا امتعاضهما من سياسة جيلاني، بيد أن الأخير مضى قدما في توقيع اتفاقيات سلام مع هذه الفصائل بوادي سوات ومناطق قبلية أخرى. ولكن ما لا يدركه جيلاني وأركان حكومته أن التعامل مع هذه المنطقة لا يعني فقط محاولة السيطرة على المسلحين في المنطقة، بل إن هناك جهات وجماعات وتنظيمات تتقاطع مصالحها بل وجهات استخباراتية خارجية وداخلية يهمها إبقاء الوضع كما هو عليه، فهناك بارونات المخدرات وتجار السلاح وأيضا عملاء الاستخبارات الهندية والأفغانية النشيطون في هذه المنطقة بشكل كبير، ولكل من هذه الأطراف مصلحة، بل إن السيناريو في هذه المنطقة قد يبدوا أكثر تعقيدا مما يتصوره الكثيرون؛ فالتشابك وتقاطع المصالح هو المحرك الأكبر، بل والمتحكم الأكبر في مجريات الأحداث هناك.

ولكن السؤال إن لم تنجح جزرة جيلاني في التعاطي مع هذه السيناريوهات أو لم تفلح ايضا العصا المشرفية ـ إن جاز التعبير؟ فهل تعتقد الولايات المتحدة والساسة في البيت الأبيض ان بامكانها اختراق كل هذه التناقضات وأن عصاها، التي وبرأي الكثير من المحللين، ستستخدمها عاجلا أم آجلا في كسر شوكة هذه القبائل؟

الشخصية الكرزماتيكة التي يتمتع بها محسود جعلت كثيرا من المجندين من جميع أنحاء العالم يصلون إلى البقعة القبلية الباكستانية في وزيرستان الجنوبية حيث يتمركز بيعة الله ليلتحقوا بمعسكرات التدريب تحت ما تسميه هذه التنظيمات بـ «الجهاد». فلم يفلح الخيار العسكري من قبل مشرف لاعتقال محسود ولم يفلح جيلاني وسياسته التفاوضية لجلب محسود على مائدة التفاوض ولم يفلح جهاز الاستخبارات العسكري الباكستاني (أي أس أي) من محاربة محسود بسلاح العداء القبلي بين قبيلته التي ينتمي إليها والمعروفة باسم «محسود» وقبيلة وزير التي يتزعمها حاجي عمر وحاجي نذير ذوا النفوذ القبلية في مقاطعة وزيرستان الجنوبية.. بل نجح محسود في أشهر الغزل التفاوضي بينه وبين حكومة إقليم الحدود الشمالية الغربية في بسط سيطرته إلى خارج وزيرستان، ونجح في استقطاب منظمات وتنظيمات أخرى تعمل خارجها فانضم إليه فضل الله زعيم نفاذ الشريعة المحمدية إلى صفه وكذلك تنظيم جيش محمد المحظور، هذا إضافة إلى الاتصال المتواصل بين هذه التنظيمات وزعميها الباكستاني ونظرائهم على الطرف الآخر من الحدود داخل أفغانستان، حيث أشار مركز الدراسات الاستراتيجية لمنطقة جنوب آسيا إلى وجود حلقة وصل متواصلة ومستمرة بين هذه التنظيمات وقلب الدين حكمتيار زعيم الحزب الإسلامي الأفغاني والنشط في الولايات الشرقية من أفغانستان والذي يعمل بالتنسيق مع تنظيم القاعدة.

وفي ظل هذه المعطيات أبدى المسؤولون والقياديون الأمريكيون قلقهم البالغ من تنامي العناصر المسلحة في المنطقة القبلية الباكستانية، ونقلت صحيفة «فايننشال تايمز» البريطانية عن الأدميرال مايك مولن رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية، قوله إن «الاستراتيجيات الميدانية التي تعكسها العمليات المسلحة التي يقوم بها عناصر حركة طالبان، تؤكد أن العدو ـ على حد وصفه ـ لديه قدرات تنسيقية عالية جدا ودقيقة ومتنوعة. وأن أعداد المسلحين الأجانب في ازدياد ملحوظ في الشريط الحدودي الفاصل لأفغانستان وباكستان».

وتشير تقارير نقلتها وسائل الإعلام الباكستانية نقلا عن شهود عيان في مدينة بيشاور عاصمة إقليم الحدود الشمالي الغربي، إلى أن قبضة طالبان لم تقتصر فقط على المناطق القبلية، بل إنها بدأت بالفعل تزحف إلى ضواحي مدينة بيشاور حيث شوهد عناصر طالبان يجوبون ضواحي هذه المدينة في سيارات «البيك آب» ويأمرون النساء برداء الحجاب وينهرون الرجال من الذهاب إلى محال الحلاقة والتزيين.

في ظل حالة المد والجذب التي تشهدها العلاقة بين الحكومة الجديدة برئاسة جيلاني والعناصر المسلحة خاصة وأن الأخيرة أشهرت عصا التهديد باستئناف العمليات الانتحارية والتفجيرية ضد الجيش والمؤسسات الأمنية وفي وقت يقوم فيه رئيس الوزراء الباكستاني بزيارة إلى واشنطن للتباحث حول هذا الأمر، قد تجد الأخيرة ضالتها وتمهد الوقائع للقيام بعمل عسكري داخل المنطقة القبلية الباكستانية، كما يتوقع الجنرال المتقاعد حميد جل رئيس هيئة الاستخبارات العسكرية الأسبق.

وفي ظل هذا السيناريو المعقد يبقى ملف تنامي العناصر المسلحة في الشريط القبلي الباكستاني والعمق الأفغاني معضلة يعجز قادة المنطقة وسياسيو وعسكريو واشنطن من التعامل معها سواء من خلال أسلوب الجزرة أو العصا.

* محلل سياسي باكستاني