كركوك.. رفقا بالفلك المشحون!

TT

لو حدقتَ في خارطة العراق (1957) لوجدت موقعها موقع القلب، أعلى الحجاب الحاجز، في الوسط إلى اليسار. يعطيك هذا الموقع كم كركوك قريبة من البلاد كافة! شمالها: أربيل، وشمالها الغربي: الموصل، وشرقها: السليمانية، وجنوبها: ديالى، وغربها: بغداد. وبعد تمصير تكريت محافظةً حدتها غرباً، وأُلحقت نواحٍ منها بالأخيرة. جرى قطع أوصالها بهاجس قومي، وحتى استبدال كركوك بالتأميم (1969)، ثم تدمير قراها، وتبديل تركيبتها السكانية جرى بالهاجس نفسه.

اسمها الآرامي «كرخ سلوخ»، ويعترضه مصطفى جواد (ت 1969) بالاسم «كرخينا» (مجلة سومر)، التي لم يذكرها البلدانيون والمؤرخون المسلمون إلا في السابع الهجري. الحموي (ت 626هـ): «كرخيني، قلعة بين دقوقا وأربل» (معجم البلدان). وابن الأثير (630هـ): «بلد الكرخيني، وبلد دقوقا» (الكامل في التاريخ). واليونيني (726هـ): «قلعة يقال لها الكرخيني من أعمال أربل بينها وبين بغداد» (ذيل مرآة الزمان).

أما كركوك فجاءت متأخرة عند علي اليزدي (ت 830هـ) في «ظفر نامه». لكن، أليس بين كرخ سلوخ وكرخيني من وشيجة لفظ ومعنىً؟! وكرخ بالآرامية: «يحيط أو يستدير» (القاموس المندائي)، وهي بهذا لا عربية، ولا تركمانية، ولا كوردية. ولو كان للمندائيين حيلة لطلبوها بحق الاسم! فهم ورثة الآراميين! ومع طنبهم الطويل بالعراق إلا أنهم لم يمثلوا بمقعد واحد ببرلمان البلاد، ولا محافظاتها! دعونا من أمر الأولين ولننظر في أمرنا الأكثر ريبةً.

ما جرى في جلسة البرلمان (22 تموز 2008) كان تسرعاً في الشائك من القضايا، إنها كَركوك! وتحولت الجلسة إلى سرية التصويت حول أمرها، ضمن مناقشة قانون انتخابات المحافظات. كان الرأي أن تستثنى حتى يتم توافق ما. ردَّ آخرون: مدن لها التعددية السكانية نفسها فلماذا تُعامل كركوك بخصوصية! لكن، فات أصحاب هذا الرأي أنهم أقروا مادة خاصة بها من الدستور (140)! وهذا ما تجنيه قرارات اتُخذت بعجالة، والكل أراد استغلال الظرف الاستثنائي ليثبت ما يريد، من كتابة دستور إلى انتخابات!

كركوك، من ناحية ضمن منطقة ورد اسمها بميديا قديماً ثم كوردستان، والكل ضمن جغرافيا وتاريخ العراق وإدارته، من دون إغفال إمارات موسمية هنا وهناك. ولعلَّ أحدث تنظيمات البلاد السياسية (1869) تنظيم مدحت باشا (اغتيل 1883)، أصبح العراق بموجبه عشرة سناجق أو ألوية (النجار، الإدارة العثمانية): بغداد، شهرزور (مركزه كركوك)، السليمانية، الموصل، الدليم (الأنبار)، كربلاء، الديوانية، البَصْرة، العمارة (ميسان)، المنتفك (ذي قار). وهو السائد حتى اليوم، فكم حجم الإفك عندما يُقال إن العراق صنعه الإنكليز! هذا، وقبل مئة عام، تنظيم الباشا المذكور، كتب أسقف بغداد تقريراً إلى البابا (1742) عن إدارة بغداد، والتي ترد بدلاً من اسم العراق أحياناً: «تشمل منطقة مادي (ميديا) شرقاً، وهي المعروفة بكردستان» (مجلة بين النهرين).

كان أفضل الإحصاءات، قبل التعريب وعقِب جذب العَمالة، إحصاء (1957)، الذي أشار إلى نسبة كوردية أعلى بالأطراف، ونسبة تركمانية أعلى بالمركز. والنسبة الكلية: الكورد: (187593). العرب: (109620). التركمان: (83371). السريان ـ الكلدان (هكذا وردت): (1605). جرى الإحصاء بإشراف خبير دولي، وهُيئ له بتدريب وعمليات تجريبية (تسجيل عام 1957، وزارة الداخلية)!

سمعتها أكثر من مرة على لسان الدكتور فؤاد معصوم وقادة آخرين: كركوك كوردستانية لا كوردية! والفرق بينهما أنها جزء من أرض الإقليم مختلطة السكان! ولا خشية على عراقيتها من إلحاقها بإقليم كوردستان في إطار العراق الفيدرالي! وإذا تعلق الأمر بإنسان مثل معصوم لا قلق على وحدة العراق: فأظنه ملتزماً لقوله: أنا عراقي، كوردي، من كويسنجق! هذا، إذا ركنت أزمة الثقة جانباً، حول كركوك وغيرها، فالأمر كما يبدو بين الكُتل محاصصة، لا ضامن ولا مضمون!

لكن، لو تعقد الأمر إلا يكفي بالمواطنة حلاً! وإذا جرى البحث بلا تخابث ليس لأحد السؤال عن هوية المثل القومية «مكدي كركوك.. خنجره بحزامه»، وهي كناية عن الطلب بالعنف والشدة (الشالجي، موسوعة الكنايات العامية) أتركماني أم كوردي أم عربي؟! هذا، مع تقدير المشاعر المتوجسة من مفهوم العراقية، فقد أصبحت مرتبطة بالعروبة، مع أن البلاد شعوب توافدت وتعايشت.

نادراً تجد اسم مدينة أو مكان لم يكن ذا أصل آرامي أو بابلي: أربيل وحتى البَصْرة. غير هذا سيدفع الجميع ثمن التعصب القومي، فمثلما لدى العرب بعثهم، الذي أهلك النسل والحرث، سيكون للكورد بعثهم أيضاً، وقد لاح بجمعية (كومه له ى زيانه وه ى كورد) ـ كازك ـ (الزاء الفارسية)، جمعية إحياء الكورد، أي حزب البعث الكوردي. اللهم سترك! رفقاً بالفُلْكٌ المَشْحُونٌ بالقوميات والأديان والمذاهب، مُتحف عقائدي، لا تتحمل بعث أمة دون سواها!

[email protected]