منتدى أصيلة.. والقطيعة مع ثنائية القطب الثقافي في المغرب

TT

حين انطلق الموعد الأول لموسم أصيلة الثقافي الدولي صيف سنة 1978، لم يفطن محمد بن عيسى، ومحمد المليحي، أنهما يلقيان بحجرة ثقيلة في بحيرة ثقافية لم تكن راكدة أبدا، ولكن مياهها مستقرة وغير مسموح تقريبا أن يبترد بمائها غير صنف محدد من المنتجين الثقافيين، كتابا أو ُدعاة بشكل ما. لقد كان المحيط الثقافي، ومن خلفه أطراف الوضع السياسي عامة، حكاما ومعارضة، مقتسما بين ثنائية السلطة والقوى المناوئة لها، ممثلة بالدرجة الأولى في اليسار السياسي بأجنحته وروافده النقابية والطلابية، والتمثيلية الثقافية البارزة حقا لطليعة من الكتاب والجامعيين. هي ثنائية لم تكن تقبل الوسط، ولا بينها صلح ولا مهادنة، الحرب بينها عوان، والجبهة فيها محتدمة بأسلحة القمع والإقصاء والتخوين والرفض وشعار الثقافة السائدة وأخرى مضادة.

جاء بن عيسى من مدار دولي في البداية، بحكم عمل سابق في منظمات دولية، والمليحي من قلب الحركة التشكيلية، باعتباره أستاذا للمادة، ورساما طليعيا متجذرا في بلاده، وصاحب ظل في الخارج، أيضا. والجامع بين الرجلين انتماءٌ أصيل إلى بلدة أصيلة، من ُدرر شمال المغرب، وإحدى بقاعه التي لا تملك إلا بساطة عيشها وجمال طبيعتها الفطرية؛ الجامع الثاني حب لهذه التربة ورغبة في إنعاشها، وفكرة في الذهن تفتقت من أجل شعار وليد آنئذ، اسمه المهموس «التنمية». لكن، وفي حقبة تاريخية كل شيء فيها كان مُسيّسا، والعمل الثقافي يقبع في قلب المشروع الإيديولوجي، أي ضمن التقاطب السياسي القائم بين الحكم المهيمن والمعارضة المقموعة والشرسة، لا أحد كان بوسعه ـ وهنا لا مجال بين الخصوم، إن لم نقل الأعداء، لافتراض حسن النية ـ أن يصدق بأن أي مشروع ثقافي حتى لو جاء من هامش (أصيلة القصية بالنسبة للمركز) هو بعيد عن تدبير الدولة، وخطة من خططها لتطويق ثقافة اليسار التي تطرح نفسها صاحبة الشرعية وذات المصداقية الوحيدة، تجاه الثقافة الموصومة بـ«الرسمية والرجعية والمحافظة» (كذا). فما بالك إذا كان صاحب المشروع نائبا برلمانيا مستقلا بذاته، أولا، مما كان يعد لبسا، ثم غدا طرفا في حزب سياسي «التجمع الوطني للأحرار» يتزعمه من هو صهر الملك الراحل الحسن الثاني (أحمد عصمان)، وأحد أقطاب الحكومة التي سيحمل السيد محمد بن عيسى فيها حقيبة وزارة الشؤون الثقافية!

من هنا واجهت الفكرة الأصيلية نفورا ومقاومة من طرف القوى الثقافية في الصف اليساري، التي كانت سلفا تناهض كل ما يأتي من خارجها وتنظر إليه بعين الريبة إن لم يكن الإدانة والتخوين المسبقين. ما لم يمنع المشروع من الانطلاق، والاستمرار، سنة بعد أخرى. وقد حمل إلى المجتمع الثقافي صيغة ـ إن لم نقل صيغا ـ مبتكرة في حقله، أي غير معهودة، وحيث تبلور منذ البداية تصور أراد أو زعمُه بالأحرى أن يزوج التنموي بالثقافي، والمحلي بالدولي، ويصهر عناصرها في أفق مفتوح، بقدر ما سيعود على المدينة المحلية بالنفع ويخرجها من رتابة الشروق والغروب في شاطئها الوديع بنوارسه الملائكية، بقدر ما سيعطي إشعاعا لمغربٍ َظلَّ التعبيُر الثقافي فيه سجينَ معادلاتِ وحسابات السلطة والمعارضة، ولم يتطلع أصحابه إلى منظورات حداثية باتت مطلوبة خارج منظور التضاد التام، وحيد القرن. بقدر ما سيخترق ما أصبح مرتبطا تنظيميا باسم «جمعية المحيط» (تحولت فيما بعد إلى مؤسسة منتدى أصيلة)، التي ستحظى بصفة جمعية ذات نفع عام، ما سيمكنها من تدبير مداخيل معتبرة للتسيير والتنشيط؛ نقول سيخترق النسيج المحلي والوطني المحدود في أفق انفتاح على الثقافات الأجنبية وأعلامها في تعبيرات وتمثيلات فكرية وتنموية وإبداعية متنوعة.

إنه لمن الطريف حقا أن تنشأ جمعية محلية، برؤية وطنية وفكرية عصرية ـ وسنكف عن أي سجال ليس هذا مجاله ـ وسترغم الداخل تدريجيا، وبمثابرة وبرمجة لا جدال فيهما، على الاعتراف بها انطلاقا، وبالاعتماد على رصيدها الخارجي بالدرجة الأولى، أي بالأعلام المدعوين من مختلف أقطار العالم العربي، ونظرائهم من كل القارات. وبالتيمات والمواضيع المطروقة، يبرز فيها انفساح الرؤية وتشابك المكونات ووجهات النظر، وهذا دليل تعددية المقاربات والأطراف المشاركة في مشروع اختار مدبروه من البداية أن يعلو على حدود المحلي، وإن لم يفلت من شروطه الموضوعية، التي ساهمت بدورها في نجاحه وتدويله، وقد كانت هي أيضا ما تنفك تتغير، ومعها منتدى أصيلة يكبر ويتسع ويتنوع ويصبح قِبلة مغربية عربية دولية، بدأت حَبْوًا، ربما «حُلماً في الكرى» وها هي اليوم ملء السمع والبصر، قد استكملت ثلاثين حولا، أي عمر جيل بأكمله في حياة المغرب السياسي والاجتماعي والثقافي.

ما يهمنا الآن، نحن الذين صُنع من لحمنا وفورتنا وقوتنا الإبداعية والفكرية تاريخ المغرب الحديث، في أي موقع كنا، وبعد أن انتقل المغرب إلى التصالح مع ذاته، وهو بصدد تحقيق نقلة جدية إلى غد مختلف عن تجاعيد ماضيه وارتباك حاضره؛ يهمنا اعتبار منتدى أصيلة وقد طوى هذا العمر المديد في طريق وعر، دؤوب، وسديد، نجاحا لمشروع في الثقافة المغربية، حررها من صدام وضيق التقاطبات، ونقل العمل الثقافي إلى صعيد التعددية، وربط الوطني بالخارجي ربطا محكما إلى درجة أن الواحد صار يتغذى بالآخر، وبما أن الجميع اليوم أضحى «يغرغر» بالعولمة، كيفما اتفق، لنُشِر إلى أن كثيرا مما أنجزه الفعل الإبداعي للفنان محمد بن عيسى، وجل من أسهموا إلى جانبه في ترسيخ أسسه، اندرج مبكرا، فعلا، في التبشير بعولمة خلاقة عِمادُها أفكار وهواجس الثقافة والتحديث والتنمية متعددة الأبعاد، نسغها من روح العصر وتطلعات الإنسان، وحافزها مواطنة إيجابية تفعل فعلها المباشر في بيئتها، ومنها تنزع إلى الإسهام في التقدم الإنساني. ما لنا لا نقول إنها تجربة فريدة في العالم العربي، تاريخيتُها واستمراريتُها وحصيلتُها المتنوعة تضعها في قلب ما يمكن للبلدان الناهضة أن تقدمه مثالا وتحديا ضد معوقات التخلف ودرسا لمجتمعات وبيئات ما تزال تبحث عن سبل الإقلاع وطرقه الناجعة. وقد أبصر كثير من ضيوف هذه الآفاق وأعلى شأوا منها كيف أن الإرادات الخلاقة يمكن أن تحول بلدة كانت ناعسة بِدَعَة على كتف المحيط الأطلسي إلى قِبلة للعالمين.

* كاتب مغربي