اليمن... تحالف هيئة الفضيلة وصراع المصالح المتناقضة

TT

أعلن مؤخرا في العاصمة اليمنية تحالف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمكوّن من قوى أصولية اسلاموية معارضة قريبة من الرئيس صالح، ورموز قبلية تقليدية موالية للحاكم في أغلبها، وتضمن بيان التحالف الختامي مطالب دينية ذات صبغة أخلاقية تطالب بالفضيلة والتصدي للمنكرات وإنشاء هيئة متخصصة لذلك، وتضمن أيضا مطالب سياسية بعضها يؤكد ضرورة مواجهة أعداء الدولة والدين وأخرى الهدف منها تحقيق العدالة والحدّ من الحرية ومحاصرة النساء، ولفهم هذا التحالف لابد من فهم طبيعة مكوّنيه وأهدافهم حتى ندرك المخفي خلف الشعارات المعروفة.

بادئ ذي بدء، عندما تلتقي القوى الأصولية وتلتحم بالقوى القبلية التقليدية وتتفق على شعارات ذات صبغة دينية وبمضامين ومطالب سياسية لصالح الدولة وحاكمها، وتقوم بتكوين تحالف من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لإثبات القوة وكواجهة للمقاومة وتنفيذ الأهداف، فإن تلك القوى تخدع نفسها وتخدع الآخرين وتجعل من الدين ستارا يحجب حقيقة الحركة، لأن الحراك الذي يحدث في بيئة محافظة كاليمن، المجتمع فيها متشدد في دفاعه عن القيم والتقاليد والأعراف، والدولة هي العائل الأساسي للمجتمع، والمصدر الأساسي لإشباع رغبات الطامحين، فإن الهدف الحقيقي هو بناء قوة سياسية هدفها الجوهري هو الاستيلاء على الدولة أو المشاركة فيها لإشباع رغبة الوعي القبلي الذي يتعامل مع الدولة كغنيمة، وإشباع رغبة الأصولي الحالم بالدولة وتحويلها إلى أداة لفرض رؤيته العقائدية وتعميمها على الجميع بالقسر والقهر السلطوي.

ومن الواضح أن الهدف الراهن للتحالف هو لملمة القوى التقليدية التي بدأ تأثيرها على الدولة يقلّ، ناهيك من الخسارة لمواقعها السلطوية، ورغم قوة من بقي منهم في الحكم إلا أن الحراك السياسي والاجتماعي يسير باتجاه إضعافهم لصالح قوى جديدة، ونجاح التحالف يتطلب في الراهن تأييد الحاكم وتحويل قوته إلى سلاح لمحاربة أعداء المتحالفين والمعيقين للهدف النهائي في الاستيلاء على الحكم، وليس مهما في الراهن تقوية الحاكم والدفاع عنه طالما أن قوته ستكون سندا في معاركهم القادمة، وطالما خزائن الدولة مفتوحة لتحقيق مصالحهم.

من الواضح أيضا أن القوى القبلية والأصولية المتحالفة لديها ذكاء انتهازي فهي تدرك بوضوح أن الرئيس صالح تواجههه مخاطر عديدة تهدد شرعية حكمة واستقرار البلاد، لذا فهي تقدم له التأييد ومواجهة أعدائه، ورغم إدراك الرئيس أن القوى المتحدية لشرعيته هم في نهاية التحليل خصوم سياسيون بالنسبة له والحوار هو الحل الأسلم معهم، وأن القوى التقليدية تمثل الخطر الأكبر على شرعيته الشعبية في عموم البلاد، وأيضا المصداقية الخارجية في بناء الدولة ومحاربة الإرهاب، إلا ان خطورة الصراع الراهن وانقسام النخبة السياسية، وغباء القوى الحديثة المعارضة في صراعها مع الدولة وتحالفها أيضا مع نقائضها لمحاربة النظام الحاكم هي من تدفع النظام لقبول حراك القوى التقليدية رغم الإجماع في المعارضة والحزب الحاكم والمجتمع على رفض هذا التحالف، وحتى لا تتسع دائرة الخصوم وردا للجميل وجد الرئيس نفسه في ورطة التحالف مع من يمثل نقيض أهدافه المرفوعة ويهدد القيم الجامعة للحركة الوطنية اليمنية.

من ناحية أخرى فإن للتحالف هدفا آخر داعم للهدف الأول يركز على فتح جبهة من الصراع مع القوى المثقفة والنخب السياسية من الفئات الحديثة في جميع التيارات السياسية ومقاومة ومحاصرة وخنق القوى الجديدة من الشباب والتي تلعب في المرحلة الراهنة دورا كبيرا في عملية التغيير، وتناضل جاهدة من أجل ولوج العصر وتتجه مساراتها نحو بناء مجتمع حديث ودولة مدنية، مع ملاحظة أن جزءا من هذه القوى الجديدة، هي نخب شابة تجاوزت المنظور الاسلاموي الضيق لصالح الحرية والانفتاح على الآخر وقبول التعددية كما تجلّت في المشروع الليبرالي.

على ذلك يطرح البعض أن التحالف ناتج عن صراع بين أعضاء النخبة الحاكمة، وهو أداة لقوى أصولية سياسية وعسكرية هي جزء من النخبة الحاكمة ومقربة من الرئيس صالح، وتعتقد هذه النخبة أن تحول حزب الإصلاح الاسلاموي إلى حركة معارضة للنظام، أفقدها قوتها وأعاق المشروع الأصولي من الاستحواذ على الحكم، وأن معارضة الإخوان للنظام الحاكم مثل نجاحا للقوى الحديثة والليبرالية في الهيمنة على القوة السياسية، وهذا ربما يُزيد من خسائرها مستقبلا، لذا فهي تلعب لعبتها باحتراف كامل وتعمل على تجميع القوى الأصولية والقبلية المؤيدة لصالح في تحالف هدفه اختراق الدولة من جديد ومحاصرة القوى المناهضة للمشروع الأصولي، وإعاقة التحولات العصرية وأيضا تسهيل مهمتها مستقبلا في القبض على الكرسي الرئاسي بعد رحيل صالح.

وأياً كان فإنه يمكن القول أن تلاقي الوعي الأصولي والوعي القبلي يمثل أمرا طبيعيا نظرا للتشابه بينهما من حيث الطبيعة والأهداف والآليات المحركة للفعل، فكلاهما يعلي من شأن الآباء والأسلاف، والماضي لديهما يمثل نموذجا، والحاضر لابد ان يكون نسخة مطابقة منه، ويتشبهان أيضا في الانغلاق على الذات ورفض الآخر والتقليل من شأن الخصم مهما كانت قوته، والتقليل من شأن الآخر وعدم أصالته، وكلاهما يواجه المواقف في حالة الأزمة بالقوة، وكلاهما يلغي فردية الفرد ويعمل جاهدا لفرض نسقه على الجميع، وكلاهما يوظف الفرد لصالح الجماعة ويخاف من الجديد ويقاومه بقوة.. الخ مع ملاحظة أن الوعي الأصولي المؤدلج المؤسس على قيم تقليدية، متأثر إلى حد بعيد بالوعي القبلي لا بالوعي الديني، كما هو في الأصول النصية.

وإذا كان الوعي القبلي يعتمد على الأعراف والتقاليد المتناسخة من مئات وآلاف السنين والمؤسسة على رؤية فكرية جامدة وثابتة لا تتغير، لذا فهو وعي معيق للتجديد وقاتل لأي تغيير، ولأن العصر يتغير كل لحظة لم تجد النخبة القبيلة التقليدية لحماية أصوليتها القبلية وللحفاظ على مصالحها، إلا أن تتحالف مع قرينها الفعلي الوعي الأصولي، وفي المقابل فإن الأصولي معتمد في فهمه للواقع على رؤية عقدية منغلقة على العصر، وتريد صياغة العصر بالماضي لا بمتطلبات الواقع وحاجاته، لم يجد الأصولي حتى حامل مفاهيم التغيير لحماية عقائده ومصالحه إلا بالتزاوج مع النخبة القبلية التقليدية.

والرؤية الانقلابية التي يقدمها الأصولي لتغيير الواقع كما يتصور، لن يحققها العصر ولا آلياته وأفكاره، ونتيجة عجز الأصولي عن التوافق مع العصر ومتطلباته، فإنه لا يجد أمامه لاستنساخ الماضي كما تجلّى في وعيه لا كما كان في واقع الحال إلا بالماضي، والذي يتجسد في اليمن في القبيلة في مناطق اليمن الأشد تخلفا عن العصر، صحيح أن الأصولي على قناعة بأن القبيلة لديها مشاكل مناقضة لجوهر دعوته، إلا انه يرى أن عقائده قادرة على تطهير القبيلة من رجسها.

وما لا يفصح عنه الأصولي في اليمن، هو أن تحالفه مع القبيلة نتاج لقناعته المطلقة، وان قوة القبيلة في المناطق الشمالية هي طريقه إلى السلطة، وبها يستطيع مغالبة العصر ويناهض رجس الفكر المتجسد في الفئات الجديدة المتنامية في ظل الانفتاح السياسي. والأصولي لا يهتم بتغيير الواقع المادي للقبيلة، فهمه مركز على الثقافة الأصولية وعلى توظيف القبيلة في صراعه السياسي، مثله مثل الشيخ القبلي الذي لا يهتم أيضا بحاجات الواقع ومتطلباته، بل بترسيخ الأعراف والتقاليد مصدر شرعيته، والقادرة على توظيف القبيلة لصالحه، وكلاهما في نهاية التحليل يمارس السياسة والنفوذ بذكاء عشائري، والغنيمة هي المحدد الجوهري للحركة. مع ملاحظة ان الأصولي لا يهتم بالقبائل الضعيفة، بل بالقبائل القوية والمهمة والمؤثرة على الدولة وصناع قراراتها.

إلى ذلك رغم تشابه وعي الأصولي مع الوعي القبلي، وانسجام كليهما من حيث آليات الفكر والفهم، إلا ان كليهما يحاول توظيف الآخر لخدمته وكليهما يفهم الآخر ويخادعه، فشيخ القبيلة يتماهى مع مقولات الأصولي لكنه لا يسمح له باختراق القبيلة ولكنه يساعده على بناء قوة حزبية من خارج القبيلة لمقاتلة نقائضه في الدولة والمجتمع، والأصولي من جهته يتماهى مع الوعي القبلي بسهوله، فهو في نهاية الأمر جزء من القبيلة ومتأثر بوعيها، وأن بدأ له أنه متحرر منها، ولكنه يحقق اختراقا لصالح قوته الحزبية بالتأثير على الشباب من ابناء المشايخ والأعيان، الذين تم دمجهم في التنظيم الأصولي، ويحلم الأصولي بأن الوقت كفيل بتحويل القبيلة بكليتها لتصبح أداته في معركته من أجل ابتلاع الدولة والمجتمع.

إلا ان الملاحظ على مستوى الواقع الراهن في اليمن، ونتيجة قوة مؤسسة المشيخ في القبيلة اليمنية، ورسوخ الوعي القبلي فإن الشيخ القبلي المتأثر بالنزعة الأصولية يقدم رؤية سياسية مثالية على مستوى الخطاب لترسيخ شرعيته خارج القبيلة وفي الوسط الأصولي، إلا أنه يتعامل مع الدولة بالوعي القبلي الذي يرى في الدولة محلا للغنيمة لا هوية جامعة للمجتمع، فالقبيلة هي الأصل والفصل.

وعندما تمارس النخبة القبلية السياسة، ومع تعاظم خبرتها واستيعابها لأحلام الأصولي، فإنها تكون محترفة في توظيف الأصولي لخدمة طموحها في ابتلاع الدولة باعتبارها أم الغنائم. والمحصلة النهائية أن الأصولي منح الوعي القبلي الايديولوجيا الكفيلة بمنحه شرعية المنافسة والمقاتلة على غنائم الدولة والمجتمع.

وهنا يمكن القول إن تحالف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي ترأسه زعماء الأصولية وزعماء القبائل القوية، لا يمكن فهمه إلا في السياق التحليلي السابق والشعارات المرفوعة والأهداف التي تضمنها بيان إعلان التحالف هدفها الأساسي هو بناء قوة سياسية لخنق القوى المنافسة والقضاء عليها والسعي نحو كرسي الحكم. ورغم أن مكونات التحالف تحاول مساعدة الحاكم في مغالبة منافسيه ودعمه في صراعه مع نقائض الدولة اليمنية الحديثة، إلا أن الانجرار وراء طموحات الأصولي وشيخ القبيلة ستكون نتيجة تفجير المجتمع وإنهاك الدولة، وربما القضاء على المشروع الديمقراطي والوحدوي، فالتحالف الذي أعلن مهموم أيضا بالصراع الطائفي حتى العمق، وهدفه مواجهة قوى طائفية أخرى بمحاربتها بالسلاح وإلغائها فكريا، وهي متأصلة في تاريخ اليمن، صحيح أن جزءا من الزيدية تشيعت سياسيا وعقائديا وتتحدى الدولة بالسلاح، ولكن أدوات الدولة وحدها هي الكفيلة بمحاربة البغاة حاملي السلاح ورافضي شرعية الدولة، أما الخيار الفكري والعقائدي فلا يمكن مواجهته طالما ظل صاحبه ملتزما بالدستور وقانون الدولة. أما تحويل القوى الأصولية المتناقضة معها مذهبيا في المعركة، فإن ذلك يعني تفكيك المجتمع وجعل الطائفية معيارا أساسيا في كل الصراعات وتحويل الدولة إلى حزام ناسف لن يفجر الدولة بل والمجتمع أيضا.

كما أن إطلاق يد القوى الأصولية المتشددة في المجتمع وبقوة الدولة والقبيلة لا معنى له، إلا مقاومة العصر وخلق صراعات داخلية بين أبناء المجتمع الواحد، وتدمير للوحدة الوطنية وإلغاء لنضال الحركة الوطنية وانجازاتها التجديدية.

وإذا كان أصحاب الهوية الجغرافية في جنوب اليمن يتحدون الدولة، ونخبتها تشعر بالظلم، إلا أن إحساسهم بالوحدة مازال عميقا، ودخول القبيلة والأصولية في صراع المصالح سيدخل الوحدة الوطنية في أزمة بنيوية أبسط نتائجها إضعاف الدولة، وتدمير الولاء الوطني وتقوية الاتجاه الذي يحاول سحب المجتمع نحو ولاءات ما قبل الدولة، واحتمال كبير ان تموت النزعة المدنية في الجنوب والشمال، وتنتشر أصولية دينية وقبلية متطرفة لتصبح الدولة الحديثة ونخبتها المعاصرة في مواجهة غول شرس، يرى في الدولة الأداة الوحيدة لقهر الأعداء وإلغاء الآخر، وهي أم الغنائم القادرة على إشباع الطموحات ورشوة القوى المساندة من زعماء القبائل، وستكون الرئاسة أول ضحاياها.