حبذا لو بدأ من حيث انتهى

TT

حبذا لو بدأ الرئيس جورج بوش عهده من حيث انتهى.. لربما وفر على الولايات المتحدة عداءات مجانية في معظمها وعلى العديد من الشعوب مآسي لم تكن بحاجة الى دفع ثمنها.

لافت أن يصبح الرئيس بوش، عشية انتهاء ولايته الثانية، أقل «دوغماتيكية» عما كان عليه في مطلعها وأكثر اعتدالا في دبلوماسيته حيال مشاكل الشرق الاوسط تحديدا.

لا يسع أي متابع لمسلسل مواقفه الاخيرة «المرنة» حيال ايران والعراق وحتى سورية إلا ان يستنتج أن أيام «المحافظين الجدد» ولت الى غير رجعة، وعهد الدبلوماسية الاميركية «الآيديولوجية» طوي لصالح سياسة شرق اوسطية أكثر واقعية وأكثر اقترابا من دبلوماسية الحلفاء الاوروبيين.

ربع الساعة الأخير من عهد بوش يشهد مقاربة لمشاكل الشرق الاوسط اقرب الى الافتراق النوعي ـ إنْ لم يكن الانعطاف الجذري ـ عما عهدته المنطقة حتى الآن.

الانعطاف الأبرز عن المسار السياسي السابق جاء في تخلي الادارة الاميركية عن سياسة رفع «العصا» في وجه إيران والانضمام الى بريطانيا وفرنسا وروسيا والصين في دبلوماسية التلويح بـ«الجزرة».. وهكذا، بعد رفض واشنطن القاطع لأي مشاركة مع الاوروبيين والصينيين في كل اللقاءات التي عقدوها مع الايرانيين لمقايضة مشروعهم لتخصيب اليورانيوم بإغراءات اقتصادية وتقنية، سمحت الادارة الاميركية لمسؤول كبير في وزارة الخارجية بتمثيلها في هذه اللقاءات في جنيف في 19 يوليو (تموز) الحالي، واضعة بذلك حدا لذريعة التهرب الايرانية من عروض الاوروبيين والصينيين، كون هذه العروض لا تحظى بموافقة الولايات المتحدة.

قد تعتبر ايران أن قبول واشنطن التحاور معها انتصارا «بالنقاط» على «الشيطان الأكبر» ولكن إظهار واشنطن لهذه المرونة الدبلوماسية تجاه طهران من شأنه أن يدحض حجج غلاة الايرانيين من ان الولايات المتحدة مصممة، وتحت أي عنوان كان، على توجيه ضربة لبلادهم. وأول مردود إيجابي لهذه المرونة ظهر في قول الرئيس الايراني، أحمدي نجاد، إنه إذا كانت لدى الولايات المتحدة مقاربة جديدة حيال ايران، فإن بلاده سترد «إيجابا» عليها.

أما الانعطاف الآخر في دبلوماسية بوش في الشرق الاوسط فقد كان حيال العراق وتمثل في موافقته مع حكومة بغداد على الحديث عن «أفق زمني» لسحب القوات الاميركية من العراق.

ورغم أن الحديث عن جدول زمني لسحب القوات الاميركية من العراق لا يزال في إطار النوايا المعلنة فهو يوحي، على الاقل، بأن واشنطن باتت مستعدة للاعتراف بسيادة بغداد على اراضيها ومستعدة للاعتراف بأنها لا تملك «تفويضا» للبقاء في العراق الى أطول ما تستوجبه الضرورات الأمنية.

أما الانعطاف الثالث فقد كاد ان يتحقق على مسار العلاقة مع سورية، وبوادره الأولية ظهرت في استقبال واشنطن لاثنين من اعضاء الوفد السوري المفاوض على السلام مع اسرائيل (عبر الوسيط التركي). وإذا كان هذا الانعطاف لم يكتمل فصولا بعد أن ألغت واشنطن موعدا للعضوين السوريين مع وزارة الخارجية، فقد يكون رُحّل الى ما «بعد الامتحان» الفرنسي لسورية حيال نواياها المعلنة تجاه لبنان، وتحديدا وعدها بإقامة علاقات دبلوماسية مع بيروت «قبل» الزيارة الموعودة للرئيس الفرنسي، نيكولا ساركوزي، الى دمشق. وإذا صحّ هذا التوقع يصحّ الافتراض بأن واشنطن ما زالت تختبر جدوى «تلزيم» دبلوماسيتها تجاه سورية ولبنان الى الرئيس ساركوزي في إطار منظومة «الاتحاد من أجل البحر المتوسط».. إلا أن كل هذه الانعطافات تبقى دون المطلوب لتصحيح سياسة الادارة الاميركية تجاه المنطقة ما لم تقترن بموقف واضح وحازم من القضية المركزية للشرق الاوسط، أي القضية الفلسطينية، وما لم تترجم بتحرك ضاغط على اسرائيل لتسريع تطبيق «خريطة الطريق» وقيام الدولة الفلسطينية الموعودة.

قد يكون من الصعوبة بمكان أن يعوض الرئيس بوش في الأشهر الاربعة المتبقية من عهده، تقصيرا يعود الى حوالي الثماني سنوات ولكن باستطاعته أن يسهل مهمة خلفه بوضعه ـ كما فعل الرئيس السابق بيل كلينتون ـ الخطوط الكبرى لأي تسوية مقبولة للقضية الفلسطينية، بدءا بالنص على ضرورة ان تكون القدس العاصمة الواحدة للدولتين وعلى استعادة الدولة الفلسطينية أراضي الضفة الغربية المحتلة.