لولا أننا قلنا: لا .. !

TT

ويبدو أنه بهذا الترتيب كان ظهور الوعي عندنا.. هل بدأنا رافضين وبعد ذلك صدقنا كل شيء .. أو هل صدقنا كل شيء ثم رحنا نرفض كل ما ارتضيناه. هل هو علاء الدين جاء مثل ديوجين، أو ديوجين هو الذي أرهقنا فارتمينا على علاء الدين.. هل بداية النهضة الفكرية في الدنيا بدأت بأن قلنا : لا ..

الجواب: نعم ..

فقد استولت على الفكر الإنساني نظريات لا تقبل المناقشة. ففي العصور الوسطى الأوروبية كان يقال حسماً لأي خلاف: هكذا قال أرسطو. ومعنى ذلك أنه لا قول بعد فيلسوف عظيم اسمه أرسطو. فالقول فيما قال في أية قضية.

ولكن النهضة بدأت عندما قالوا: أرسطو قال أهلاً وسهلاً، ولكننا عندنا ما نقوله وهو مخالف لأرسطو، وكل الثوابت التي كتمت أنفاس الفكر والعقل في أوروبا. كأنهم بدأوا بالإيمان بالمعجزة ثم جاء ديوجين يرفض ويطرد ويلعن. فهل بلغة كرة القدم: أحسن اللاعبين هو الذي كلما جاءته الكرة سددها خارج الملعب، أم أن اللاعب الماهر هو الذي يهز الشباك ويزلزل الجماهير ؟

هل الذي يقول: لا ، دائما على صواب، أو الذي يقول: نعم، دائماً على صواب. الجواب كلاهما خطأ. فلا شيء صحيح كامل تماماً.. لا شيء ناقص كاذب تماماً. وإنما الحقيقة من هذا وذاك، والعقل هو الذي يصنع مقادير الصدق والكذب والخرافة. وليس أمتع من مصباح صلاح الدين ولا أسهل من مصباح ديوجين، ولا أروع من مصباح أديسون ..

إنني ظللت أصدق كل ما تقوله أمي. وفجأة اكتشفت أنها لا تقرأ ولا تكتب وأن الذي تقوله ليس صحيحاً وأنه عيب أن آخذ بكل ما تقول.. وبدأت أتردد وأتشكك مع أنها رحمها الله كانت الطيبة والخير والحب والأمان. واندهشت كيف أن واحداً مثلي عرف عشرات المذاهب الفلسفية وقضاياها: الله والكون والحياة بعد الموت والقيم الأخلاقية والجمالية ويؤمن بصورة قاطعة بما تقوله أمه.

ابتسمت وقبلت يديها والأرض تحت قدميها قائلاً: «لا يا أمي..». وأرى أننا جميعاً فعلنا ذلك .. مع احترام ماضينا وعلمائنا.. وعلماء اليوم والمستقبل !