الرعب لا يكفي

TT

لا شيء في الحياة أسوأ من كلمة (البغضاء).

إنها تعني نفي الآخر، أو افتراسه، أو دفنه حياً.

وأشد مرارات البغضاء هي التي تأتي بعد ظلم.

ففي الحرب العالمية الأولى بعدما حل بألمانيا من مصائب، فتح الهولنديون منازلهم وقلوبهم لمئات الآلاف من اللاجئين الألمان وكان اغلبهم من العجزة والأرامل والأطفال، وقد آووهم واستضافوهم لعدة سنوات في بلادهم.

ولكن (هتلر) عندما نشبت الحرب العالمية الثانية، كانت هولندا المسالمة من أول ضحاياه، والذين قادوا الهجوم عليهم هؤلاء الأطفال اللاجئون أنفسهم عندما بلغوا مبلغ الرجال.. بل كان احتلالهم لتلك الدولة لا يخلو من الخديعة أو الخسة، لأنهم ارتدوا زياً هولندياً مسروقاً واختلطوا بالجنود الهولنديين، ورموهم غيلة من خلف ظهورهم مثلما تقول كتب التاريخ.

واستعرت نيران البغضاء في نفوس الهولنديين، إلى درجة أن أحدهم كتب قصة خيالية كان لها صداها في نفوس الشعب المحتل آنذاك.

وتقول القصة: انتهت الحرب فجأة، وقبض على هتلر وجيء به إلى (أمستردام)، وقضت عليه محكمة عسكرية بالموت.

واختلفوا فيما بينهم كيف تكون الميتة، إن المشنقة لا تشفي الغليل، ولا الرصاصة بالرأس، ولا حتى بالحرق، فكلها تؤدي إلى موت سريع، كما أن ذلك الرجل الذي أنزل كل هذا العذاب بالناس، فمن حقهم أن يتشفوا به وهو ينال جزاءه، وتلك الميتات المقترحة لا تمكن الملايين من الوقوف عليها حتى لو كانت في أكبر الميادين.

غير أن أحد القضاة اقترح أن يؤتى بفتيل طويل يبدأ من (روتردام) وينتهي (بأمستردام) مروراً بكل البلدات المهمة، ليشاهد الناس لهيبه وهو يتحرك، وإذا وصل إلى حيث يقف هتلر موثقاً تنفجر تحته حزمة بارود وتمزقه.

وهذا ما حصل، وبدأت الحفلة في الرابعة فجراً، وكلما مرت شعلة الفتيل على بلدة أو قرية أخذ الناس يهتفون، وكان هناك مذيع يعلن بالميكرفون على رأس هتلر: الآن وصل الفتيل المشتعل إلى المكان الفلاني وهو على بعد كذا كيلومتر من مكاننا، إنه يتقدم، إننا بانتظاره على أحر من الجمر.

وعند الساعة الثالثة بعد الظهر أعلن المذيع أن اللهب وصل إلى مشارف (أمستردام)، عندها قرعت الطبول وبدأ الجميع ينشدون النشيد القومي، فأربد وجه هتلر وأخذ يتنافض.

ولم يتبق غير خمس دقائق، وقبل عدّة أشبار من الانفجار وقعت أعجوبة، حيث استطاع شيخ نحيل أن يشق الصفوف، وإذا به يدوس على الفتيل ويطفئه، وأخذ الناس يصيحون: اقتلوه، اقتلوه، غير أن الشيخ واجههم بهدوء وهو يرفع يده للسماء: والآن دعونا نشعل الفتيل من جديد من حيث بدأ، فالرعب هذا الذي حصل لهتلر لا يكفي.. دعوه يرتعب بالمزيد من الرعب.

هذا الشيخ لديه ولدان قتلهما رجال المظلات الألمان، ولقيت زوجته وبناته الثلاث حتفهن في حرائق (روتردام)، التي مثلما يقال ضربتها الطائرات النازية بالقنابل دون إنذار، ولم يكن في المدينة أية مضادات حربية، وأخذت قاذفات القنابل تجوب فوقها للأمام والخلف وكأنها جرارات تحرث الحقل، ودمرت 25 ألف منزل و21 كنيسة و1200 مصنع و69 مدرسة و12 دارا للسينما، وقتلت عشرات الألوف وشردت أكثر من مائة ألف من السكان.. كل هذا جرى خلال 40 دقيقة فقط لا غير.

[email protected]