عبد الودود!

TT

أخبار الذين طفوا فجأة على سطح الدنيا فعاثوا فيها فسادا، تصيب العقلاء بالحيرة، وشر البلية ما يجعلك تتمنى أن يعود هؤلاء إلى مواقع فقرهم لكي يستريحوا ويريحوا، فالغنى بعد الفقر «بهدلة» في بعض الأحوال، فهو يدير الرؤوس، ويضمر العقول، ويصيب العواطف بالبلادة، بل ويسم السلوك بالسفه، ولا دواء لهذا السفه أفضل من الفقر، والعودة إلى شظف العيش، وخشونة الحياة، فالترف لبعض من لم يألفه يصيب المبتلى به بفقدان التوازن، واختلال الرأي، واعتلال الرؤية، فيتحول إلى أحمق لا يأبه لقواعد السلوك، ومعايير الأخلاق..

عبد الودود كان شابا عاديا يضرب في مناكب الأرض من صباح العالمين إلى ليل الكادحين، ليعود في نهاية اليوم مرفوع الرأس، شامخ الخطى، يعجز تعبه عن أن ينال من ألق سعادته، فكنا نقتسم الحكاية كل مساء في مقهى الحي مع فناجين الشاي «المنعنش» قبل أن يمضي كل منا ليستقبل السماء صدرا بصدر على سطوح دورنا العتيقة، وكان للأحلام حينها شموخ الصواري وأجنحة العصافير..

وفي أرجوحة الحياة بعد ذلك صعد الرجل ذات مرة في مواسم المطر، ولم يهبط، بقي معلقا في الهواء، ينظر من عل، فصغرت في عينيه كل الأشياء والناس والأماكن.. تورم الرجل حتى لم يعد يكفي اسمه الحاف للدلالة على كل تلك الكتلة من الشحم واللحم، فكان لا بد من إسناد تلك المفردة بلقب «شيخ»، فـ«مشيخة» الدراهم حق مشاع لمن يمتلك قدرة الإنفاق على عدد من «التنابلة».. هجر الرجل المقهى والحي والرصيف، الذي كان يصفعه كل صباح بحذائه المهترئ إلى عوالم بعيدة، قطع حبله السري بكل ماضيه، مفرغا ذاكرته القديمة من حمولتها ليتساقط منها الأهل والناس والقيم، وقد أشرع وجهه مراكب للرحيل إلى مرافئ الزيف البعيدة..

حينما عاد بعد سنوات يبحث عن ذاته المبعثرة، كان قد اعتصر آخر القطرات في كأس ثرائه، حتى غدا كجذع شجرة يابسة جافتها الغيوم والربيع وقطرات الندى.. شاهدته بالأمس يمشي في الظهيرة وحيدا لا ظل يتبعه ولا ألقاب، وقد تقوس منه الظهر، حتى بدا كدمية عبثت بها أنامل طفل عدواني.. هو اليوم غريب في عيون الآخرين كما كان الآخرون بالأمس غرباء في عينيه..

[email protected]