فقدت قطعة حية من الإسكندرية برحيل يوسف شاهين

TT

كان المعلمون الانجليز في كلية فيكتوريا بالاسكندرية، يلهبون ظهور مخيلتنا في مطلع الخمسينات، بسياط صنعت من اسماء عالمية سبقونا بالجلوس على مقاعد الدراسة نفسها، ليوجهوا طموحنا لقدوتهم، كالملك حسين بن طلال، ونجم جديد اسمه عمر الشريف صورته في الصحف مع فاتن حمامة، اكتشفه سكندري فيكتوري آخر هو يوسف شاهين.

الصور «لصراع في الوادي» 1954 سادس اعمال شاهين، احداثه في معبد الكرنك حيث تآمرت الظلال وأشعة الشمس والكاميرا لتنحت وجه الشريف بجانب وجوه من اخترعوا التاريخ.

كان شاهين طليعة مخرجي الواقعية الاجتماعية في السينما المصرية، رابع اكبر صناعة سينما في العالم وقتها، وأداة ريادة الثقافة المصرية في الشرق منذ عصر نهضة مصر الاخير في العشرينات باقتصاد طلعت حرب باشا وتنوير استاذ الجيل احمد لطفي السيد باشا، ودستور سعد زغلول باشا.

خلال مشوار من 50 فيلما قدم شاهين المواهب الشابة من الجنسين قبل نجوم الشباك وفرخ العشرات من تلاميذه مخرجين ومصورين وممثلين على مدى 55 عاما مر فيها بثلاث مراحل.

مرحلة الواقعية الاجتماعية تناولت صراع الفرد كبطل تراجيدي من اجل العدالة ضد قوى القهر والتسلط، وعاد لابرازها بقوة في ملحمته «الارض» 1969.

وكمايسترو وزع انغام اوركسترا «الارض» من عمالقة الثقافة المصرية. قصة عبد الرحمن الشرقاوي، تحولت بريشة الفنان حسن فؤاد الى سيناريو، بينما اصطحب شاهين نجوى ابراهيم قارئة نشرة اخبار الشاشة الصغيرة الى طاقة انوثة تتفجر على الشاشة الفضية، بجانب عمالقة كعبد الرحمن الخميسي، ويحيى شاهين وتوفيق الدقن ومحمود المليجي الفلاح المقاوم للظلم.

يموت المليجي متشبثا بجذور ارض روتها دمائه ومياه النيل، مربوطا بحصان قائد عسكر هجانة غير مصريين جاءوا لاخضاع القرية، فيسقطه من فوق جواده لحظة خروج روحه، في تعبير بصري عن انتصار روح المصري، بالمفهوم الفرعوني للخلود، على فرسان الغزاة.

كان شاهين لايزال في الثامنة من عمره السينمائي عندما شارك عملاق آخر هو المرحوم السيناريست عبد الحي اديب في «باب الحديد» 1958 ليخرجه شاهين ويلعب بطولته امام هند رستم، وعرفت بمارلين مونرو مصر، لقدرتها التمثيلية على التعبير عن ادق مشاعر الانوثة، بجاذبية وجمال دون ابتذال.

كان الفيلم اوج مرحلة شاهين الأولى عن صراع الفرد ضد قوى الظلم والفساد، مع الحبكات الفرعية عن المشاعر الانسانية والحب الذي يتجاوز حدود الثقافات والاعراق.

كره الشموليون المتاجرون باسم الدين اعماله لجرأتها في مزج اعراق وثقافات تكون منها «موزايك» مصر، واستخدامه التاريخ لكشف الفساد والظلم.

تحايلوا على القضاء لمنع فيلمه «المهاجر» عام 1994 بحجة انه مقتبس عن قصة يوسف من القرآن.

رد شاهين بعد ثلاث سنوات بفيلم «المصير» عن الدور التنويري للفليسوف الاندلسي ابن رشد الذي منع مظلمي العقل كتبه، وجاء حوار الفيلم باللغة المصرية العامية لينبه الى محاولة الاظلاميين المعصرين مصادرة الثقافة.

فيلمه الاخير «هي فوضى»، الذي منعه المرض من اتمامه فاكمله تلميذه خالد يوسف، كان صرخة احتجاجه الاخيرة ضد الظلم والتسلط، في شخصية رجل بوليس فاسد اتلف الفن والثقافة واغتصب الجمال.

شهدت مرحلته الثانية، فترة علاقة الحب ـ الكراهية بين فناني مصر ودولة الكولونيل عبد الناصر البوليسية بعد تأميم الاستديوهات وشركات الانتاج والتوزيع ودور العرض. وظف شاهين احداث التاريخ لاستكشاف الواقع المعاصر في غفلة من الرقيب الذي زرعه النظام الستاليني في الثقافة والفنون ليفرخ جيلا مبرمجا برقابة ذاتية اسمها الالتزام بقضايا الوطن. المفارقة ان الفردية للفنان مثل الشعر في راس شمشون، فايمان شاهين بفرديته التي بلغت حد النرجسية، كانت ضرورية لموهبته التي اضافت لتراث مصر.

هروب شاهين من الالتزام الاشتراكي الى بيروت لاحظه عبد الناصر فسأل لماذا يعمل «الفنان المجنون ده خارج مصر؟ قولوا له يرجع».

تضمن فيلمه «الناصر صلاح الدين» 1963 الذي وفر له الجيش كتيبتي مشاه وفرسان لتصويره مغالطات تاريخية، واجبروه على اضافة «الناصر» لاسم القائد الكردي صلاح الدين الايوبي.

لكن شاهين اضاف لمساته بابراز تمرد الفرد على المتوقع منه، فقدم مسيحي يحارب تحت راية المسلم صلاح الدين وقصة عاشقين من دينين مختلفين.

عبور الفرد ثقافة اجتماعية الى اخرى والحب المختلط الاعراق والعقائد كان لونا مفضلا في لوحاته السينمائية وبدى اكثر وضوحا في مرحلته الثالثة ـ الذاتية جدا، بابراز الاحتكاكات الانسانية بين الافراد وتبادل الثقافات في احداث الصراعات والحروب كما في «وداعا بونابرت» 1985.

فشاهين ولد في الاسكندرية عام 1926 عندما كان الزواج المختلط الاديان والثقافات القاعدة وليس الاستثناء؛ ابوه من اسرة لبنانية مارونية وامه يونانية كاثوليكية. لا يمكن فهم شخصية شاهين المعقدة في عبقريتها دون دراسة ثلاثية سيرته الذاتية «اسكندرية ليه» 1978 اثناء الحرب الثانية بشخصيات كالملازم انور السادات وكفاحه السري، وشاب مصري يختطف جنود الانجليز حتى منعه الحب والتعاطف الانساني عن قتل احدهم وهو في قبضته. و«حدوته مصرية» 1982 عن تمزق الفنان بين الابداع المطلق والتنازلات العملية. و«اسكندرية كمان وكمان» 1990 حيث ترقص الكاميرا بين الماضي والحاضر وبين الفانتازيا والواقع وسخرية المصري من الطغاة والغزاة.

كلما التقيت يوسف عبر السنين ضحكنا من القلب وتبادلنا ذكريات زمن جميل مضى، عن اسكندرية الصبا. كاد يقنعني اكثر من مرة بهجرة بريطانيا للامساك بخيط تركته في الاسكندرية مراهقا؛ بقوله ان ذكريات الاسكندرية بئر ينهل منها اكسير فنه؛ اسكندريتنا لها قدرة فائقة لمقاومة ثقافة التجهيل الغازية بتمييزها الديني وكراهيتها للآخر.

الذكريات تتحول الى طعنات في القلب عند كل زيارة، فوجه اسكندرية الجميل المبتسم في حزن وداع 1959 حفر فيه الزمن الرديء تجاعيد القبح.

اسكندرية يوسف شاهين.. اسكندرية بيرم التونسي والشيخ سيد درويش، اسكندريتي اصبحت كقارة اطلانطس المفقودة في قاع البحر.

في كل جنازة لصديق سكندري، تدفن قطعة من اسكندريتنا معه.

اودعك صديقي يوسف شاهين وصورتك في مخيلتي تلميذ في مظاهرة مثلما قدمتها في شخصية المراهق يحيى في «اسكندرية ليه».

اودعك وتراتيل جنازتك في قلبي كلمات بيرم والحان الشيخ سيد بعثت حية في اغنية «يا اسكندرية بحرك عجايب» لاحمد فؤاد نجم والحان فنان الشعب المرحوم الشيخ امام عيسى.

تراتيل هي الوصية الاخيرة قبل خروج روح ابن يموت لتحلق فوق زرقة البحر لتلحق بروح الدته المرحومة اسكندريتنا.

«ياريتني كلمة في عقل بيرم....»

«ياريتني غنوة في قلب سيد.....»

«ياريتني جوه المظاهرة طالب، هتف باسمك وبات معيّد...»

وتصبح على خير يا أمير السينما المصرية الجميل.