صوت الجبابرة في قصيدة نزار قباني

TT

«الرسم بالكلمات»، هي القصيدة، أول قصيدة في ديوانه المعنون بها، والذي صدر عن منشورات نزار قباني يناير 1967، وهي من أشهر قصائده التي ظلمته وفتحت النار عليه تنديدا وعدوانا، إذ يقول في جزء منها: «كل العصور أنا بها فكأنما، عمري ملايين من السنوات، تعبت من السفر الطويل حقائبي، وتعبت من خيلي ومن غزواتي، لم يبق نهد أسود أو أبيض، إلا زرعت بأرضه راياتي، لم تبق زاوية بجسم جميلة، إلا ومرت فوقها عرباتي، فصلت من جلد النساء عباءة، وبنيت أهراما من الحلمات».. في تأملي لهذه الصورة المروعة لم أسمع سوى صوت الجبابرة، منذ بدء الخليقة حتى صدام حسين ورادوفان كراديتش وجورج دبليو بوش وملحقاته وإلى ما بعد ذلك، إلى أن يرث الله الارض وما ومن عليها.

نزار قباني كان راصدا، يرسم بالكلمات كل الزوايا، وينطق بلسان كل الشخصيات، ويجسد الأفكار والمعتقدات، ويطرح وجهات النظر المختلفة والمتناقضة. يصور الشاعر، بدقة، الواقع والحلم، الحقيقة والأكاذيب. يعبر عن الذات/ الفرد، وعن الذات/ الأمة، وعن الذات/ الإنسانية في مجملها، ولذلك يظل من أغرب الأمور ما يتصوره بعض الناس، ومنهم بعض فطاحل النقاد والأدباء، أنه كلما قال نزار «أنا» فإنه يعني «أناه»، من البديهي إذن أن أستبعد أن تكون «الأنا» المتكلمة في «الرسم بالكلمات» هي «أنا نزار»، الذي يتصور البعض أنه يتحدث عن نفسه أو عن تجربته الذكورية الشخصية.

الذي تلقيته وتمثل لي بوضوح، من الصور المتتالية في القصيدة، هو الملخص التاريخي للجبابرة الذين قادوا إمبراطوريات العالم والتي غربت عنها الشمس.

كلنا يعرف أنه من الرموز الأدبية المستهلكة رمز المرأة الأرض، وعلى ذلك قيل «رحم الأرض»، ويقودنا هذا القول إلى منظومة الرموز المتتابعة: النهد/ الضرع، الحليب/ الثروة، الخصب/ الخير... إلخ.

الأرض لها كل مفردات جسد المرأة، ومن هذا يمكنني أن أفهم قول القصيدة «لم تبق زاوية بجسم جميلة، إلا ومرت فوقها عرباتي» من خلال ترجمتها بمنطق جبار يتباهى كالتالي: لم يبق هناك شبر بالأرض الجميلة إلا وغزوتها طمعا في خيراتها، ذلك لأن النهد الأسود أو الأبيض، هو التعبير عن خيرات الأرض المتنوعة، على سبيل المثال ألا يجوز أن يعني البترول/ النهد الأسود؟

إنني أرى الصورة في القصيدة لجيوش غازية تحت قيادة جبار اجتاحت وحاربت وانتصرت وخلفت الأسرى والقتلى: «فصلت من جلد النساء عباءة، وبنيت أهراما من الحلمات»، أليست هذه صورة الملوك الجبابرة الذين إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة؟ لكن الشاعر يشهد أن كل تاريخ الجبابرة كان إلى زوال فيقول: «واليوم أجلس فوق سطح سفينتي، كاللص أبحث عن طريق نجاة، وأدير مفتاح الحريم فلا أرى، في الظل غير جماجم الأموات».. ألا أرى هنا مثلا صورة نابليون المهزوم منفيا إلى سانت هيلانة يندب مجده الزائل؟ «اليوم تنتقم النهود لنفسها، وترد لي الطعنات بالطعنات... أنا عاجز عن عشق أي نملة، أو غيمة، عن عشق أي حصاة، مارست ألف عبادة وعبادة، فوجدت أفضلها عبادة ذاتي»!

هذا يا سادة صوت الجبابرة، هذه «الأنا» هي «أنا» فرعون، وكسرى، وقيصر، والملك، والخان، والإمبراطور، وأمثالهم ومن يسير على دربهم اليوم، رسمها الشاعر نزار قباني بقوة ودقة وبث فيها تهكمه الساخر من جبروت الطغاة وتفاهة غرورهم.