الحقيقة الجديدة في العراق يواجهها الخلاف القديم

TT

طالت مدة الحملة الرئاسية الأميركية وأصبحت أكثر حدة، لدرجة أنها بدت كأنها تعمل داخل شرنقة تعزلها عن التحولات التي تحتم عليها تغيير فرضياتها. أهم مثال على ذلك الخلاف حول انسحاب القوات الأميركية من العراق.

على مدار العام الماضي، تم اقتراح وضع زمن محدد للانتهاء من سحب القوات، وقال المؤيدون إن هذا القرار سيجبر الحكومة العراقية على الإسراع بسياسة المصالحة، وإنه سيعجل بنهاية الحرب، وإنه سيسمح للولايات المتحدة بتركيز جهودها في مناطق ذات أهمية استراتيجية أكبر، مثل أفغانستان؛ وإننا فوق كل هذا خسرنا الحرب وأن الانسحاب يمثل أقل الخسائر التي يمكننا الخروج بها من الهزيمة. (ولكشف التفاصيل الكاملة، أقدم النصيحة لمرشح الرئاسة الجمهوري السناتور جون ماكين بين الحين والآخر).

لقد تجاوزت الأحداث هذه الفرضيات. يتفق تقريبا جميع المحللين الموضوعيين على حدوث تقدم كبير على الجبهات الثلاث في الحرب في العراق: أولا، يبدو أن القاعدة، وهي قوات المجاهدين السنة التي تجند معظم أفرادها من الخارج، بدأت تهرب من العراق؛ ثانيا، انتهى التمرد المسلح الذي كان يقوم به السنة العراقيون الذين يحاولون استعادة سيادتهم؛ وأخيرا استطاعت الحكومة التي تسودها أغلبية شيعية في بغداد التغلب، على الأقل مؤقتا، على الميليشيات الشيعية التي كانت تتحدى سلطتها. وبعد أعوام من الإحباط، نحتاج إلى تغيير أسلوب تفكيرنا فيما يتعلق باحتمالات النجاح.

بالطبع لا يمكننا أن نعرف الآن ما إذا كانت تلك التغييرات دائمة، أو ما إذا كانت تعكس قرارا لخصومنا، ومن بينهم إيران، بادخار قواتهم لما بعد إدارة بوش، وإلى أي مدى يكون هذا. ولكننا نعرف أن نتيجة الحرب ستحدد شكل العالم الذي ستطبق فيه الإدارة الجديدة سياساتها. إن أي مظهر يدل على أن القوات الإسلامية المتطرفة تسببت في هزيمة الولايات المتحدة ستكون له عواقب وخيمة تتعدى حدود المنطقة. لذلك، يعتبر تحديد كيفية مغادرة العراق وموعدها أحد أهم القرارات التي على الرئيس القادم اتخاذها. وبغض النظر عن كيفية تفسير الأحداث الأخيرة، كون الأهالي السنة في العراق قوات محلية يدعمها العديد من الدول السنية من أجل محاربة القاعدة والمتمردين العراقيين. وأسهم هذا بدوره في تخفيف حدة التوتــر لدى السنة من تهميش دورهم في ظل الأغلبية الشيعية. وقد طور الإقليم الكردي قوات دفاعه الخاصة. وبهذه الصورة، تظهر احتمالات المصالحة الوطنية بين الأطراف الثلاثة في البلاد: الأكراد والشيعة والسنة، ليس بموجب الدستور، كما تخيلت القرارات التشريعية التي تطبق التجربة الأميركية، ولكن بمقتضى الضرورة والإجراءات العسكرية والتوازن السياسي. ومع تضاؤل الحاجة إلى تعامل القوات الأميركية مع قوات كبيرة من المتمردين المسلحين، يمكنهم توجيه تركيز متزايد إلى مساعدة الحكومة العراقية على مقاومة ضغوط دول الجوار، والهجمات الإرهابية المفاجئة التي تشنها القاعدة أو الميليشيات التي تساندها إيران. في هذا الوضع، يمكن أن تساعد الانتخابات الوطنية والمحلية التي ينص الدستور العراقي إجراءها في الشهور المقبلة في تشكيل مؤسسات عراقية جديدة.

يمكن أن تحصل الولايات المتحدة على احتياطي استراتيجي من بعض القوات الموجودة حاليا في العراق، ونقل البعض الآخر إلى أماكن أخرى مهددة، وإعادة آخرين إلى الولايات المتحدة. فيتحول إعادة نشر القوات الأميركية من أمر ممكن التنازل عنه إلى تخطيط سياسي جغرافي. يجب أن ينتج عن هذا التخطيط مؤتمر دبلوماسي يتولى التوصل إلى تسوية سلمية رسمية. وقد عقد مثل هذا المؤتمر منذ عامين على مستوى وزراء الخارجية. وحضره جميع دول جوار العراق، ومن بينهم إيران وسورية، ومصر والأعضاء الدائمون في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. لذا يجب أن يعاد عقد مثل هذا المؤتمر، وأن يتولى تعريف المكانة الدولية للعراق والضمانات التي تمنحه هذا الوضع.

بالإضافة إلى ذلك، يجرى الآن إعداد مبادرات إقليمية لتحقيق استقرار الأوضاع في الشرق الأوسط. فتسعى تركيا بالتوسط بين إسرائيل وسورية؛ وحققت مبادرة قطرية وقف مؤقت على الأقل للقتال في لبنان. إن وضع موعد أخير لسحب القوات الأميركية من العراق هو الطريق المؤكد لتقويض هذه الاحتمالات المأمولة. وسوف يشجع الجماعات الداخلية التي لحقت بها هزائم كبرى إلى العمل تحت السطح حتى يصبح الوضع ملائما لعودتها مجددا مع رحيل القوات الأميركية. وسيصبح لدى القاعدة موعد نهائي تخطط من أجله عودة عملياتها على مستوى واسع. وسيمنح فرصة لإيران لتقوية مؤيديها في المجتمع الشيعي خلال فترة من الوقت بعد الانسحاب الأميركي. إن وضع موعد نهائي ثابت سيبدد الجهود التي نحتاجها في المرحلة الدبلوماسية الأخيرة. وتضاعف التــــناقضات المتأصلة في الانسحاب المقترح من الصعوبات. وفقا لخطة الانسحاب محدد الموعد، تنسحب قوات القتال، ولكن تظل قوات كافية لحماية السفارة الأميركية، ولمحاربة قوات القاعدة العائدة، وللمساهمة في الدفاع عن العراق ضد أي تدخل خارجي. ولكن مثل هذه المهام تطلب القتال، وليس قوات مساعدة؛ كما أن الجدل الذي من الممكن توقعه حول الفرق المحير في عمل القوات سيشتت الانتباه عن الهدف الدبلوماسي العام. كما أن الانسحاب من العراق غير ضروري لإرسال قوات للقيام بعمليات في أفغانستان. فلا داعي للمخاطرة بالجهود المبذولة في العراق من أجل إرسال فرقتين أو ثلاث إلى أفغانستان (وهي الأرقام التي يتحدثون عنها)، وهو ما سيكون متاحا حتى إذا لم يكن هناك موعد نهائي للانسحاب.

في إشارة إيجابية، اقترح مؤيدو تحديد موعد نهائي لانسحاب القوات مؤخرا أن يكون كل من الانسحاب وبقاء القوة المتبقية بشروط. ولكن إذا كان هذا هو الحال، فلماذا نحدد موعدا نهائيا بأية حال؟ قد يحول هذا الاقتراح الخلاف إلى تناول شروط الانسحاب بدلا من توقيته.

وتفسر هذه الاعتبارات تصرف رئيس الوزراء العراقي نوري كمال المالكي أثناء زيارة المرشح الديمقراطي للرئاسة السناتور باراك أوباما إلى العراق. ويجري المالكي مفاوضات مع إدارة بوش حول اتفاقية وضع القوات الأميركية في العراق للإبقاء على بعض القوات في العراق. بالنظر إلى الاتجاهات الشعبية واقتراب موعد إجراء الانتخابات المحلية، ربما يريد المالكي أن يوضح أن الوجود الأميركي المتبقي ليس مخطط له أن يكون احتلالا دائما.

وقد أكد هذا الباعث الموقف الذي حدث لدى وصول المرشح الرئاسي، الذي كان قد أعلن عن وجهة نظره بالفعل في هذا الأمر. كان يعني رفض خطة الانسحاب التي عرضها السناتور أمام حشد صحافي كبير معاداة مرشح ربما يكون على المالكي التعامل معه كرئيس فيما بعد. لا يجب أن يظهر الوجود الأميركي في العراق على أنه لا نهاية له، لأن هذا لن يؤيده أي من الرأي العام المحلي العراقي أو الأميركي. ولكن لا يمكن أيضا أن نقترح إنهاء الوجود الأميركي بتحديد موعد نهائي صارم. تحقيق هذا التوازن هو السبيل الوحيد أمام بلادنا للحصول على نتائج بناءة. ويحظى الرئيس القادم بفرصة عظيمة لتحقيق الاستقرار في العراق ووضع أساس لتحول حاسم في الحرب ضد تطرف المجاهدين، ولشرق أوسط يحل فيه السلام. وبالطبع سيحتاج إلى تقييم الوضع على أرض الواقع قبل أن يضع استراتيجية فترته الرئاسية. فلا يجب أن تقيده فروض صارمة لتبرير الحقائق الماضية، مهما بدت مقبولة في الماضي، فإن الانسحاب وسيلة؛ والغاية هي عالم أكثر سلاما وأملا.

* خدمة «تريبيون ميديا سيرفزس» ـ خاص

بـ«الشرق الأوسط»