الرمادي .. اللون الوطني الجديد للبنان

TT

تراه في جبال لبنان وغاباته الخضراء سابقاً بعد كل حريق مدمِّر، طبيعي ومفتعل. وتسمعه في كل كلام سياسي وتحليل إعلامي يبطن أكثر مما يظهر. وإن ضاقت بك سبل التعريف.. أليس هو منتصف الطريق بين لون الرايات البيضاء رمز استسلام الدولة القليلة الحيلة... واللون الأسود لون الحداد ومهرجانات التشييع التي تتحوّل على الدوام إلى منابر تهديد وتخوين وتهويل؟

الرّماديّ.. أضحى لون لبنان من حيث هو «وطن مؤجل» بامتياز.

من حيث هو تجربة ممنوعة من أن تتحوّل إلى صيغة، ومن حيث هو هدنة ثقيلة الظل متثاقلة الأنفاس تنتظر حدثاً ما في الشرق أو الغرب أو كليهما... قبل أن تنقشع، وبالحد الأدنى من الخسائر والويلات.

رماديّ هو مستقبل شعب اعتاد كلُّ بعضٍ منه على الكذب على الآخرين.. حتى صار كلُّ بعضٍ منه يصدّق أكاذيبه حتى على نفسه. ورماديّ واقع حكم البلد، وميزان شرعيته، ومنطق العدالة فيه، وجوهر وجوده، وخطاب الدفاع عنه...

مَن انتظر تصاعد «الدّخان الأبيض» مؤشراً على تفاهم في العمق على بيان وزاري يؤسّس لحوار وطني حقيقي.. فوجئ.. ولم يفاجأ بـ«دخان رماديّ».

ومَن توقّع مواقف حاسمة من ممثّلي القوى المتصارعة التي فرضت عليها «رماديّة» الوضعين الإقليمي والدولي اتفاقاً رماديّاً اسمه «اتفاق الدوحة».. أيضاً اكتشف كم هي قويّة امتدادات الوضعين الإقليمي والدولي على أضعف حلقة سياسية وديموغرافية في «سلسلة» المنطقة المتداعية.. وكم هي رماديّة المفعول.

ظروف تشكيل الحكومة الجديدة يعرفها اللبنانيون جيداً، وكذلك خلفيّات الأزمة التي عطّلت انتخاب رئيس الجمهورية قرابة نصف السنة. ولئن كان أصحاب الذاكرات القوية والعقول القادرة على التحليل من اللبنانيين يتذكّرون وضع البلد خلال السنوات القليلة الماضية، فمن البديهي أن يتعاطف أي متابع منصف مع أي قيادة أو شخصيّة تريد السير بلبنان ولو خطوة واحدة إلى الأمام. إلا أن هناك مشكلة جديّة الآن تتمحور حول اعتبار «الإنكار» نوعاً من أنواع الحلول.

فلا شك في أن «الإنكار» يخفِّف الضغط النفسي، وفي حالة بلدٍ على شفير الإفلاس كلبنان يأتي عنصراً مساعداً على قطع المراحل بالتي هي أحسن وأجدى، ولكن من العبث التصوّر أنه في حد ذاته يحتوي على بذور حل.

بداية الحكومة الجديدة، وهي أول حكومة في العهد الرئاسي الجديد، مولجة بإجراء أول انتخابات لأول برلمان فيه. وهذه مهمة صعبة عموماً حتى على الحكومات المنسجمة فكيف إذا كانت حكومة تجمع أضداداً حتى ضمن الجبهة العريضة الواحدة.. لقّبت تهذّباً بـ«حكومة وحدة وطنية»!.

وبالتالي، إذا كانت عمليّة التشكيل احتاجت لبضعة أسابيع والكثير من الاتصالات الخارجية المحمومة غير المعلنة، وإذا كان «البيان الوزاري» احتاج إلى أسبوعين وأكثر من الجدل، فهل يمكن توقع أي نتيجة ملموسة لجهودها إزاء انقسام شعبي ونفسي حادّ يزيده خطورة عاملا السلاح، وغطرسة الشعور بالغلبة؟

هذه الحكومة، التي حاول عقلاؤها بجهد مشكور التخفيف من احتقان الشارع، الذي تفجّر غير مرة من طرابلس، بالكلام اللين والإعراب عن تفاؤل.. يدركون قبل غيرهم أن ليس ثمّة ما يبرِّره.. اعجز من أن تفعل أي شيء غير محاولة منع انفلات الكارثة بين الآن وحتى موعد «الانتخابات ـ اللا انتخابات».

والأطراف المشاركون في الحكومة ـ أي معظم القوى السياسية في لبنان ـ يفهمون: أولا طبيعة اللعبة الخطرة المترابطة الخيوط بين الداخل اللبناني والخارج الإقليمي، وثانياً أهمية عامل الوقت في الحسم بين النصر والهزيمة. وانطلاقاً من فهمهم المزدوج هذا صاغوا تحالفاتهم التكتيكية التي قد تستمرّ حتى موعد الانتخابات المقررة في العام المقبل، ما لم تشهد المنطقة تطوّرات راديكالية تغيّر العديد من المعطيات الكبرى.

فداخلياً، لا وجود للتحالفات الاستراتيجية الثابتة، لكن معسكري «14 آذار» و«8 آذار» محكومان مرحلياً بالمحافظة على تماسكهما لأسباب جوهرية.

ذلك أن معسكر «14 آذار»، الذي يجمع قوى متعددة من اليسار واليمين والعروبيين والإسلاميين والقوميين اللبنانيين، لا يجمع أشتاته اليوم سوى مشروع حماية إنجاز «الاستقلال الثاني» في العام 2005، والعداء المشترك للقوى التي يتهمها بمسلسل الاغتيالات الفظيع الذي تعرّضت له قياداته، وللقوى المتواطئة مع القوى المتهَمة (بفتح الهاء) والمتعاونة معها. وبالتالي، الخيار الأساسي الذي ما زال يحظى بإجماع كل مكونات «14 آذار» هو بناء الدولة ومؤسساتها. والهم الأكبر الذي يقلقها على أبواب الانتخابات المقبلة هو أي انتخابات نزيهة يمكن أن تجرى في ظل بقاء السلاح الثقيل بحوزة قوى، مرتبطة إقليمياً، احتفظت به بعد «اتفاق الطائف» 1989 باسم «المقاومة».. لكنها استخدمته في حروبها الداخلية ضد خصومها المحليين.

أما معسكر «8 آذار»، وهو يضم بدوره قوى متعددة تتراوح بين اليسار واليمين والعروبيين والإسلاميين والقوميين اللبنانيين، فأزمته أولا وأخيراً مع شركائه في الوطن. إذ أنه فعلياً ضد إكمال تطبيق «اتفاق الطائف» الذي هو الخطوة الأساسية لإنجاز «الاستقلال الثاني»، وهمّه اليوم برغم كل الكلام المنمّق تأجيل أو تعطيل بناء الدولة إلى حين توافر الشروط الإقليمية المفيدة لارتباطاته. وهكذا غدا شعار «المقاومة» تكتيكاً تعطيلياً بينما تطبخ المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية على نار هادئة، وتنتظر إيران ـ ودمشق أيضاً ـ نهاية عهد جورج بوش «الإبن» في واشنطن للتفاهم على صفقة تعايش تفوّض عبرها إيران النووية أو نصف النووية ببعض أو كل ما كان مفوضاً به الشاه محمد رضا بهلوي.