«الإخوان» والرماح المقدسة

TT

يبدو أن الاخوان المسلمين هم من يكسب من هذه التوترات التي تعصف بالمنطقة، فهم من يقدم باعتباره المنقذَ، وهم من يملك المرونة العالية في تغيير المواقف وتوزيع الوجوه بين باسمة وعابسة، دون أدنى تهمة بالتناقض، فهم في العراق متفاهمون، عبر الحزب الاسلامي، مع «الغاصب» الأمريكي، وهم في الحالة السورية أعداء لعدو امريكا: النظام ـ ان استمر العداء ولم تكتمل مناورة الاسد باتجاه واشنطن ـ وينسقون ضد نظام الاسد عبر الرافعة الغربية والدعم الدولي والامريكي منه على وجه الخصوص، لكن الإخوان، في مكان آخر، ألد الأعداء لأمريكا والغرب، كما في نسخة إخوان الاردن، خصوصا مع مراقبهم الجديد، صقر الصقور، د. همام سعيد، وهم في الحالة المصرية يراوحون بين جهامة المرشد مهدي عاكف، وبراغمتية عبد المنعم ابو الفتوح، وعصام العريان، أبرز الوجوه السياسية للجماعة في مصر.

سيقال: وما عيب ذلك؟ أليست السياسة فن الممكن؟ أليس الإخوان في كل مكان يملكون ظروفا خاصة تختلف من دولة الى دولة أخرى؟ والحكمة هي مراعاة الاحوال والظروف؟ بوجيز القول: هم يمارسون السياسة في أجلى صورها، فما الضير في هذا؟

والحق أنه لا ضير ولا عيب في ذلك، كما في اخلاقيات السياسة، لو أن الجماعة لم تخلط عملا صالحا وآخر سيئا، وتمزج السماء بالارض، والماء بالسخام، لو أنهم، الاخوان، تقدموا للجمهور والحلبة السياسية من البداية باعتبارهم حزبا محافظا يحمي القيم المحافظة للمجتمع ويصوغ برنامجه السياسي والاجتماعي والاقتصادي على اساس هذه القيم، كما فهموها وحددوها، لربما اختلفت الصورة كثيرا منذ دخلوا الحياة السياسية في اربعينات القرن الماضي، ولكنهم قالوا من البداية، نحن الاخوان المسلمون، ونحن حملة الرسالة الالهية، والأوصياء على تحقيق كلمة السماء في الارض. وهنا سر المرض الخفي الذي أحدثه الاخوان في جسد الثقافة العربية، وهنا تكمن براعتهم في تسخير كل امكانيات الحركة والمناورة والجهود، من مال وشهادات علمية، في حماية الفكرة الرئيسية عندهم وهي ان الحل يكمن في اقامة الدولة الدينية، وهذا هو مؤدى شعارهم الشهير: «الاسلام هو الحل».

الغريب في صورة الإخوان، انهم وهم يمارسون قمة البراغماتية السياسية والنوم مع الشيطان الامريكي او الاسرائيلي، يعطون ذلك التصرف دوما حصانة الهية، باعتبار ذلك لونا من الوان الدهاء المطلوب من المؤمن وتقديرا للمصالح والمفاسد و«سياسة شرعية» معتبرة، لكنهم في وصف ما يفعله خصومهم السياسيون العرب، لا يقدمون هذه الأعذار لهم، فيصير الجميع خونة ومنبطحين للصهاينة والامريكان إن جلسوا معهم او خاطبوهم او وقعوا معهم اتفاقية ما.

بكل حال، ليس الحديث هنا عن سبب وجود هذه القابلية «للتأخون» عند نسبة كبيرة من الجمهور او من الأحزمة الثقافية والسياسية المحيطة بالإخوان، ممن يلحون على صفة الحياد «العنقائية» نسبة لطائر العنقاء الخرافي، وذلك لأن الحديث عن هذه القابلية سيقودنا الى الحديث عن تفسير هذه الهرولة النفسية والعقلية العربية الدائمة تجاه كل من رفع شعارا سماويا او دينيا، منذ أن رفع معاوية المصحف على الرماح، مرورا بعشرات الامثلة والمحطات، حتى عصرنا، الذي بزغ فيه شعار «الاسلام هو الحل» الأثير لدى الاخوان المسلمين، هذا الحديث والخوض في تفاصيله صعب وشاق على النفوس والعقول، لأنه يلامس حواف جراحنا العميقة.

وليس الحديث المطول أيضا عن تفسير السخط والنقمة التي يبديها رجل الشارع العادي، على الحكومات، ومن نار هذا السخط يشتعل حطب تيارات المعارضة؛ وعلى رأسها الاخوان، ففي أغلب الاحوال لا يغضب الشارع على السلطة بسبب نقص الديمقراطية او تعديل الدستور بغير حق.. الخ فهذه اهتمامات النخب العربية المثقفة المسيسة، لأن جل اهتمام الناس العاديين هو في ثلاثة أمور: المعيشة، الأمن، الخطوط العريضة، والعريضة جدا، للشرعية العامة للدولة. الغرض من الحديث هنا هو الإشارة إلى مشهد جديد من مشاهد لعبة شد الحبال والمناورات السياسية بين الإخوان، أم الجماعات الدينية السياسية، وبين الحكومات العربية، مسرحه هذه المرة: مصر، والتي كانت بداية القصة الاخوانية منها. ففي هذه الايام دار سجال لافت بين جمال مبارك، نجل الرئيس المصري، ونجم الحزب الوطني الحاكم عبر موقعه أمينا عاما مساعدا في امانة لجنة السياسات، وبين جماعة الاخوان المصرية.

جمال مبارك صرح في حديث لمجلة السياسة الدولية الفرنسية ونشرته صحف مصرية أن تنامي تأثير الإخوان إشكالية تأخذها الحكومة بجدية شديدة، مضيفا: أن «الدين أحد أهم عناصر التكوين في مجتمعنا وثقافتنا، وهناك بعض الجماعات يستخدمونه كوسيلة لتطوير أفكارهم الهدامة».

واتهم جمال مبارك الإخوان باستغلال الأزمات الداخلية كالفقر والبطالة للضغط على النظام وتقديم الجماعة كبديل للحزب الحاكم، وقال: «هذه الجماعات تحاول استثمار بعض الصعوبات التي تجتاح البلاد لصالحهم».

طبعا هذا الكلام أحدث خضة وصدمة غير متوقعة لدى الاخوان، حتى لدى حمائمهم، الامر الذي استدعى عصام العريان، وهو رئيس مكتبهم السياسي، إلى وصف التصريحات بالهراء، وتساءل: «ما هو الاستخدام (السياسي) للدين في بلد متدين بطبيعته؟». وقال أيضا «الإخوان مؤمنون بأفكارهم حقا، وإلا ما دفعوا هذا الثمن من أرواحهم وحرياتهم وأموالهم».

تركيز جمال مبارك على استغلال الإخوان للظرف الاقتصادي المصري حتى يألبوا الشارع على الحكومة، تركيز له مغزاه، لأن جمال مبارك يعتبر من أكثر المتحمسين لإحداث إصلاحات اقتصادية حرة في طبيعة الاقتصاد المصري، ورفع معدل النمو، وتقليص الدعم الحكومي وصولا الى الغائه، للسلع، وهو ما يرهق خزينة الدولة، وهو بطيعة الحال سعي غير شعبي ولن يلقى ترحيبا في ظل معدلات صعبة من الحاجة وتدني الاجور، وهو ما يجده الذين كانوا، من قبل هذه الازمة الاقتصادية، معارضين للنظام، يجدونه فرصة سانحة لزيادة الضغط على الحكومة والنظام لأسباب تتعلق بالتنافس على السلطة، لا أكثر ولا أقل، وهذا السلوك في استغلال اي نقطة او ثغرة لتعظيم الرصيد السياسي وتضخيم الحجم، مفهوم وليس متفهماً، فالجميع يمارسه، ولكنه مع حالة الاخوان يكتسي رونقا سماويا مصطنعا، ليس من ثوب السياسة الارضية ولا من قماشها.

الغريب أن موقف الاخوان في مصر لم يكن متطابقا تماما مع موقف الجماعات الناصرية واليسارية التي انضوت في لواء حركة «كفاية»، والتي كان أساس انطلاقها (منتصف 2004) محاربة التوريث، ثم طورت مطالبها وخطابها باتجاه خطاب سياسي ثوري، داخليا وخارجيا، فهو يريد الغاء معاهدة السلام مع اسرائيل، وتثوير السياسة المصرية ليصبح النظام المصري مثل الأنظمة والجماعات الراديكالية التي تحفل بها منطقتنا، صحيح أن الرمزين الاخوانيين: عصام العريان وعبد المنعم ابو الفتوح كانا من موقعي البيان التأسيسي للجماعة، ولكن ذلك لم يكن كافيا ليطمئن عتاة الناصرية واليسار الى طهارة الاخوان من مطامع السلطة والسياسة، وهو ما حدا بأحد صقور «كفاية»،

عبد الحليم قنديل، الى التشكيك، في كتابه الأخير، بنوايا الاخوان إزاء مبدأ التوريث، والتواصل مع اسرائيل لو صار لهم نصيب في الحكومة او الدولة. وذكر قنديل بتصريحات لعصام العريان نشرت في اكتوبر(تشرين الأول) 2007، قال فيها إن «الاخوان لو وصلوا للحكم سيعترفون باسرائيل ويحترمون المعاهدات».

هذه الهوامش البراغماتية التي ميز بها الاخوان أنفسهم عن حركة «كفاية»، لها ما يفسرها، فهي اولا بسبب اختلاف المنطلقات والاسس الآيديولوجية والثقافية الحاكمة، خصوصا موضوع التوريث، غير المنبوذ تماما في الخيال السني السياسي، طبقا لتنظيرات الماوردي وغيره، وإن كان هذا الموقف من مبدأ التوريث لدى الاخوان قابلا للتصعيد والتخفيض حسب المصلحة الآنية للاخوان، فإن صعدوا رفضا، فهذا مفرح لـ«كفاية» وللثقافة الديمقراطية الدولية، وفيه نكاية بأنصار التوريث، وفي حالة التخفيض: فهو ورقة قد يستخدمها الاخوان في حالة التفاوض على موقعهم ومستقبلهم، وله قاعدة شافعة من الارث الفقهي السياسي. والسبب الثاني لوجود هذه الهوامش المختلفة لدى الاخوان عن «كفاية» هو أن لدى الاخوان ما يخسرونه وما يكسبونه في السياسة، كما لهم ثقل حقيقي على الأرض وبمجلس النواب، عكس مثقفي «كفاية» الذين يملكون بعض المحابر والمنابر.

في النهاية، لسنا ننقم على الاخوان لعبة السياسة ولا مناوراتها، ما دام لهم هذا الرصيد من الشعبية والحضور، في ثقافة ومزاج عام يمنحهم عشرات المقاعد البرلمانية ويصدق شعاراتهم! هذا حق مكتسب لهم، لكن الرفض هو لهذا التوظيف المبتذل للدين في لعبة الدنيا، لأنهم يكررون بشكل حديث خدعة الرماح المقدسة يوم صفين.

[email protected]