أحلام الأوليمبياد وقسوة الواقع

TT

ربما يراود الكثيرين التساؤل حول ماهية العناصر التي تجعل دورة الألعاب الأوليمبية في صيف 2008 المقرر عقدها في بكين مختلفة عن الدورات السابقة؟ وتكمن الإجابة في أنه لم يسبق أن أبدت أية حكومة مثل هذا الحرص البالغ على استغلال دورة الألعاب في تعزيز مكانتها الدولية. ومن الواضح أن الحكومة الصينية تأمل بشدة من خلال استضافة هذه الدورة في تعزيز مستوى الدعم الداخلي لها واستعادة ثقة الشعب.

من المعروف أن النظام الصيني الحالي تم إقراره سعياً وراء تطبيق الشيوعية، التي باتت الآن فلسفة تعاني من الإفلاس. واليوم، لا تزال الحكومة الصينية تطالب غالبية أبناء شعبها بتقديم تضحيات، لكن دون أن تعدهم في المقابل بالمجتمع الشيوعي المستقبلي الذي سبق أن وعدتهم به. بدلاً من ذلك، أصبح الهدف المعلن الجديد بناء أمة أقوى يُحسب لها حساب على الساحة الدولية. بيد أن رغبة الحكومة الصينية نحو التمتع بمكانة دولية أعلى تمثل في جوها في الوقت الراهن طموحاً يقتصر على طبقة الصفوة فحسب. في المقابل، ما زالت الأغلبية من الصينيين، خاصة بالمناطق الريفية، تعاني من وطأة الفقر والأمراض وانعدام الأمن الاقتصادي. وفي الوقت الذي يعيش 200 مليون شخص على الأقل داخل الصين على أقل من دولار واحد في اليوم، حصدت الحكومة الصينية خلال السنوات الست السابقة عشرات المليارات من الدولارات وعملت على تعبئة الجماهير للاستعداد لاستضافة دورة الألعاب الأوليمبية. وقد تكبد الشعب الصيني ثمناً فادحاً مقابل استضافة هذه الدورة. على سبيل المثال، قام عمال البناء المهاجرين ببناء منشآت كبرى حديثة من أجل الألعاب الأوليمبية مقابل أجور زهيدة وفي ظل ظروف قاسية. وفي أغلب الحالات، جرت أعمال البناء على أراض حصلت عليها الحكومة من خلال إجلاء المواطنين عنها بالقوة ـ غالباً دون تقديم تعويض ملائم لهم. وعندما تظهر المباني اللامعة وسماء بكين الصافية أمام العالم خلال دورة الألعاب الأوليمبية لصيف 2008 دعونا لا ننسى أنه تم بناؤها على هرم من التضحيات قدمها أفراد الاحتمال الأكبر أن الحكومة حرصت على إبعادهم عن الأنظار العامة حرصاً منها على نجاح الدورة. ومن المؤسف، أنه لا تتوافر الكثير من المؤشرات حول أن تنظيم هذه الدورة سيحقق أدنى تقدم باتجاه تحول الصين إلى مجتمع مفتوح، رغم أن الصحفيين الأجانب حصلوا على موافقة مؤقتة بعقد لقاءات مع المواطنين الصينيين دونما استخراج تصريح رسمي حتى نهاية فعاليات الدورة. ومنذ ذلك الحين، وفي الوقت الذي تم فيه التخفيف من شدة القيود المفروضة على الصحفيين الأجانب، استمرت حملة الإجراءات الصارمة ضد الصحفيين والمحامين ونشطاء حقوق الإنسان الصينيين. ومن المنتظر أن يجري استعراض المظهر الحديث للصين أثناء فعاليات الدورة، في تناقض صارخ مع أسلوب الحكم العتيق الذي ينتهجه الحزب الشيوعي الحاكم. يذكر أن قدرا بالغا من شرعية النظام الحاكم تعتمد على أفكار مغلوطة وأكاذيب تاريخية. ومن أجل الحفاظ على هذه الأكاذيب، كان من الضروري فرض رقابة وتنظيم عمليات تلقين منظمة لضمان الحفاظ على حالة من فقدان الذاكرة الجماعي على مستوى البلاد. والتساؤل الآن هل ستنجح مشاعر الحماس المسيطرة على ملايين مشاهدي التلفزيون الصينيين لفعاليات الألعاب في محو الذكريات السوداء لحملة القمع التي شنتها الحكومة ضد المتظاهرين في ميدان تيانامين؟ من ناحيتها، يبدو أن الحكومة الصينية مقتنعة بأن بإمكانها تحقيق هذا الهدف الخاص بخلق حالة من فقدان الذاكرة الجماعي. ومن شأن استغلال دورة الألعاب الأوليمبية كأداة دعائية مساعدة الحكومة على تحسين صورتها على المدى القصير، بينما لا يساعد ذلك في تسوية المشكلات الحقيقية التي تجابهها البلاد على المدى البعيد.

وبعد خمسين عاماً من التحولات الكبرى في نمط السياسات المتبعة، فشل الحزب الشيوعي الصيني في تحقيق أي نوع من المساواة أو بناء برامج اجتماعية عامة أساسية بمجالات مثل التعليم والرعاية الصحية والأمن الاقتصادي، رغم تأميمها لجميع الأراضي وقطاعات ضخمة من الاقتصاد خلال حقبة «ماو تسي تونج». على مر السنوات، قطعت الحكومة على نفسها وعوداً لا حصر لها للفقراء من أبناء المناطق الريفية، ثم أغفلتها، بينما كانت الجهود الدؤوبة لهؤلاء الفقراء هي العامل وراء بناء الصناعات والمدن الحديثة في الصين. وبينما نجحت الحكومة في بناء مجمعات رياضية على أرفع مستوى ودور للأوبرا، فشلت في بناء طرق داخل أكثر قرى البلاد فقراً أو حماية نظام الأمن الاجتماعي بالبلاد من التعرض للإفلاس. وأخيراً، لم يتم إحراز تقدم كبير على صعيد تعزيز الحريات المدنية، وهو السبيل المناسب الوحيد لتناول قضايا غياب العدالة بصورة علنية وعادلة.

* خدمة «تريبيون ميديا سيرفسز»

ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»