كتابات للصيف: السكينة التي نفتقدها في المدن

TT

المصادفة ان جميع الهائمات بالشرق، أو بالصحراء، كن من عائلات اريستوقراطية وذوات ارث مالي مكنهن من الانتقال من رغد الحياة في قصور بريطانيا وريفها الأخضر بلا انتهاء الى الحياة في الصحراء، حيث الرمل أبيض احيانا كالثلج، أحمر أحيانا، معدني احيانا، سندسي في الربيع عقب الهطول، وبلا انتهاء. بلا انتهاء. «لكن نداء الصحراء» جذبهن كما نادى الرجال. وقد كتبن قدر ما كتبوا وبشغف عظيم وجد متوثب. واحببن كل ما تذمر منه أهل البادية. احببن التباعد بين الآبار. والمسافات الواعرة. والصمت المطلق المطبق الكلي الذي لا أنس سواه، على مدى الأيام والعتم والقمر. وكان القمر مصباح الليدي آن بلانت وسراجها الوحيد. عندما يهل تبدأ في كتابة مفكرتها ورسم مشاهداتها. امرأة من لندن، جاءت تترحل في صحراء تدمر والوان غروبها، وراحت تعاند الفصول في وادي الفرات وتطل بعد مسيرة طويلة على الجوف، ثم تبدأ تلك الرحلة المذهلة في النفود. طبعا الليدي آن لم تسافر وحدها في أرض نجد. كان هناك زوجها ولفرد سكاون بلنت، الذي التقاها المرة الأولى في ايطاليا 1866، حيث كان يهيم متشردا خلف عواطفه، وكانت تقيم لتتذكر جدها اللورد بايرون، أشهر شعراء الانكليز منذ شكسبير. وقد شبه ولفرد جمال زوجته المقبلة بأنه مثل جمال الطيور «ولها الوان أبي الحناء، بعينيه العميقتي السواد وريشه العنابي الضارب الى القرمزي». بدأ الزوجان الرحلة الأولى عام 1877، وبلغا الفرات بعد عام. وفي مطلع 1878 انطلقا من دمشق في اتجاه الجوف والنفود وحائل. ومن أول الطريق هتفت:«ها نحن أخيرا في الصحراء. صحراؤنا. اننا نشعر هنا بالسكينة التي نفتقدها في المدن». ولم يكن يرافق الزوجين سوى دليل وخادم. واعتبرت الليدي بلنت رحلتها في نجد «حجا» فهي «لا تنقصها صفة القداسة، وهي موطن النخوة والاباء والكرم التي يتغنى بها البدو». سحرتها بلاد عنترة بن شداد وحاتم الطائي. وناقضت الليدي بلنت الكثير من الأوصاف التي تركها الرحالة الذين سبقوها، خصوصا وليم بالغريف، الأكثر شهرة. في النفود واجهت القافلة الصغيرة معنى الخطر الكبير: «كان ولفرد قد القى الليلة البارحة كلمة موجزة حول مخاطر الرحلة التي نحن في صددها: ثمة مائة ميل من الرمل الشديد العمق علينا اجتيازها. وقد اتضح ان دليلنا راضي كان كسبا كبيرا للربع. فهو مستعد لاعطاء الأجوبة عن أي سؤال، لكنه لا يعمد الى الحشو بلا طائل. انه رجل عجوز صغير الحجم وغريب، ناحل أسود هزيل مثل اجمات الارطى اليابسة التي تنتشر هنا كحطب النفود».

وبدا راضي مسليا احيانا، يروي الحكايات والسوالف والخرافات. وكانت القافلة الصغيرة ترى في كل مكان هياكل عظمية فيقول راضي انها عظام جمال نفقت. لكن الليدي بلنت لقيت في احد الأفلاج عظاما مختلفة:«لقد هلكت هنا كتيبة غازية بما فيها من ذلول ورجال. كانوا من عشيرة الرولة، اجتازوا النفود للقيام بغزو على شمر، فلم يفلحوا في الوصول الى آبار الشقيق في طريق العودة. كانت عظامهم بيضاء وعليها بعض الجلد، لكن راضي يقول ان ذلك حدث قبل عشر سنين».

بقية الطريق راح راضي يروي، بأسلوب مشوق، تغريبة بني هلال والزناتي خليفة وكيف أضحى صديقنا أبو زيد أميرا على تونس بمساعدة من ذيب بن غانم. واما الليدي بلنت فأتمت رحلتها وكتابها بعنوان «الحج إلى نجد».