لماذا نجحوا ولماذا فشلنا ؟!

TT

أظن أن مثل هذه الأسئلة تلح على كل المثقفين والمفكرين العرب، فبعد عقود عديدة من الاستقلال فإنه لا توجد دولة عربية واحدة يمكن إطلاق صفة «متقدمة» عليها. صحيح أن هناك دولا عربية «غنية» خاصة هذه الأيام مع ارتفاع أسعار النفط؛ ولكن التقدم أمر آخر يختلف تماما عن الغنى. والأمر لا يحتاج إلى تفاصيل كثيرة وفقا لمعايير التقدم المختلفة فإن المتابع للتقارير الدولية لن يجد بلدا عربيا يشغل مكانة متقدمة إلا حيث يكون المال ـ الغنى مرة أخرى ـ مؤثرا فى المعيار أو المقياس. وبالنسبة لقضية العرب «المركزية» فإن الفارق هائل ما بين الحالة التى وصل إليها الفلسطينيون، والحالة التى وصل إليها الإسرائيليون. وخلال الجنازات التي عقدت بمناسبة مرور ستين عاما على «النكبة» كانت الكارثة متعددة الأوجه، فلم تعد احتلالا إسرائيليا فقط، بل كانت انقساما لدول لا تجد شبيها لها إلا في العراق حيث القلوب والعقول مقسمة بقدر انقسام الأرض وفرقة الناس. أما خلال الاحتفالات بمرور ستة عقود على إقامة دولة إسرائيل فقد كان هناك ما هو أكبر من مجرد البقاء والصمود لمجموعة «العصابات الصهيونية» الذين أقاموا كيانا «زائفا» و«مزعوما» أصبح الآن جزءا من العالم المتقدم ديموقراطيا وصناعيا وعلميا وقبله لزعماء وعلماء الأرض.

الإجابة السهلة على الأسئلة معروفة، حيث كان الاستعمار والصهيونية وتكالب القوى الغربية والمؤامرات المعروفة وغير المعروفة، ولكن كل ذلك عرفته دول أخرى في أشكال شتى ومع ذلك بقيت وتقدمت وازدهرت. وتعالوا نأخذ حالة على سبيل المقارنة حينما قامت دولة إسرائيل في عام 1948 حيث كان لدينا مجتمع فلسطيني زراعي مستقر لآلاف السنين، ومعنى ذلك هو ارتباط بالأرض، وتقاليد، وتشابكات عائلية ودينية، وصلات بين المدن وبين الحضر والريف. صحيح كان هناك العثمانيون أولا ثم جاء البريطانيون ثانيا، ولكن حركة الغزاة لم تكن تعني الكثير في التاريخ طالما أن المجتمع باق على حاله يتكاثر ويتوالد ويخلق الصلة بين الأجيال في أزمنة متعاقبة. الجماعة الصهيونية في المقابل لم تكن كذلك، وفي الهجرة الأولى من القرن التاسع عشر لم يكونوا أكثر من ضيوف مثل كثيرين جاءوا من بلاد كثيرة كان بعضهم في دولة الخلافة العثمانية وبعضهم الآخر لم يكن كذلك. وحينما جاءت الهجرة الثانية بدأ التجمع الصهيوني يأخذ تشكيله الذي نعرفه وأخذ في التوسع التدريجي بعد صعود النازية وهزيمتها. ولكن في كل هذه الأحوال كان المجتمع الصهيوني في فلسطين جديدا وبلا جذور ومتعدد اللغات والأصول وحتى مفكك الحركات السياسية والأيدلوجية.

العجيب أنه بعد ذلك انصهر اليهود في بوتقة إسرائيلية واحدة، بينما تفكك الفلسطينيون مجتمعا وسياسة ثم بعد ذلك نفيا في العالم، وكان ذلك في البداية كما هو حادث تماما الآن. والأعجب أن ذلك حدث رغم أن اليهود الذين جاءوا من كل بلاد العالم كانت لهم حاضنة بريطانية قبل قيام الدولة، ثم حاضنة أمريكية بعد قيامها؛ ولكن كلاهما كان بعيدا؛ بينما كانت الحاضنة العربية والإسلامية عميقة وكثيرة استراتيجيا وسياسيا وسكانيا بالطبع. ولكن ما حدث فعليا هو أن الحاضنة الغربية البعيدة كانت أكثر قوى وفاعلية من الحاضنة العربية القريبة ليس لأن الأولى كانت أقوى عسكريا أو تكنولوجيا، وإنما لأن إسرائيل عرفت كيف تصوغ السياسات والتحالفات التي تجعلهم في القرب، بينما على الجانب الآخر فإن الفلسطينيين كانوا سببا للفرقة داخل الحاضنة العربية وبما قاموا به من تحالفات خاطئة كانت مع النازية مرة، ومع الشيوعية مرة أخرى.

ومن المؤكد أن اليهود في فلسطين قبل عام 1948 كانوا قلة ولا يشكلون أكثر من ثلث سكان فلسطين ولا يملكون منها إلا النزر اليسير، ومع ذلك فان من يتفوقون عليهم ثلاث مرات، ويملكون الغالبية الساحقة من الأرض كانوا هم الذين ذهبوا بينما بقيت القلة غير المالكة. المعادلة هنا تبدو مرهقة للغاية وتتحدى المنطق الذائع الذي أرجع الموضوع كله إلى المؤامرة والاستعمار، ومن المؤكد أن الموضوع ليس له علاقة بصفات خلقية أو جينية خاصة بالعرب أو الفلسطينيين، ولكن المسألة كلها متعلقة بالطريقة التي أدار بها هؤلاء أو الطبقة السياسية القائدة لهم الموارد والأرصدة المادية والاستراتيجية التي بحوزتهم. وفي كل المجتمعات فإن الموارد والأرصدة ـ بشرية أو مادية ـ لا تعمل وحدها ولكنها تحتاج لمن يعبئها ويشكلها ويديرها حتى تحقق أهدافا استراتيجية بعينها كانت في الحالة الفلسطينية تحقيق الحفاظ على الكيان الوطني على أرضه، وفي الحالة العربية عامة تحقيق التقدم لهذا الكيان بحيث لا يكون لقمة سائغة في يد الغزاة أو المستغلين من الداخل أو الخارج.

ومنذ كان ما يعرف بعصر النهضة أو اليقظة العربية، وعلى مدى قرن ونصف القرن تقريبا فإن الخلاص العربي ظل مجهضا حتى رغم التخلص من الهيمنة العثمانية وبعد الاستقلال عن المستعمر الغربى. وربما كانت الدول العربية هي المجموعة الوحيدة من الدول في العالم التي لم تكف أبدا عن الأنين والشكوى من الاستعمار رغم استقلالها لعقود عدة، وكأنها لم تصدق أبدا أن مصيرها قد بات كاملا في يدها أو أنها عندما حصلت على الاستقلال لم تعرف تحديدا ماذا تريد الفعل به. وربما كان ذلك ما جرى في حالة السلطة الوطنية الفلسطينية التي ما أن تكونت وباتت تشكل جنين دولة أو سلطة بل جرى فيها أول حركة انفصالية في تاريخ الدول العربية قبل أن توجد الدولة من الأصل عندما استقلت حركة حماس بغزة وأقامت فيها سلطات تنفيذية وقضائية مستقلة.

وبالطبع فإن هناك استثناءات من هذه الحالة في دول عربية عدة، ولكن هذه الاستثناءات لا تنقص من حقيقية وجود وهن عام فى الإيمان بفكرة الدولة في العموم، وبل وحتى الإدراك العام لمعنى الدولة كهوية وشبكة من المؤسسات والارتباطات وعلاقات الاعتماد المتبادل والسوق الاقتصادية الناضجة. وربما كان هذا واحدا من الأسباب التي أثرت في التوازن الاستراتيجي بين الكثرة المالكة والقديمة وذات العمق الاستراتيجي، والقلة الحديثة والتي لا تملك الكثير ويقع عمقها الاستراتيجي على بعد آلاف الأميال. فما حدث خلال العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي أن الحركة الصهيونية انشغلت ببناء المؤسسات من أول الجامعات وحتى مؤسسات البحث العلمي وحتى المجتمع المدني والسياسي، وكل ذلك تحت سيطرة قيادة واعية ومنظمة وموحدة للحركة الصهيونية. وليس معنى ذلك أن الحركة الصهيونية كانت خالية من المتطرفين، أو هؤلاء الذين خرجوا عن الصف، أو حتى هؤلاء الذين رفضوا الحلول المطروحة والتي اعتبروها أقل من أحلام الحركة الصهيونية؛ ولكن الحركة الصهيونية كان لديها من الإيمان «بالمؤسسة» و«القيادة» ما يكفي لكي تردع هؤلاء بالديمقراطية أحيانا والعنف أحيانا أخرى، لكي يبقى خط الواقعية السياسية مسيطرا وفاعلا.

العكس تماما هو ما جرى لدينا، فالمؤسسة وقواعد التعامل لم تكن على الأغلب موجودة، وعندما وجدت كانت ضعيفة وواهنة وليست لها الهيبة التي تستحقها، وحتى مع ضعفها ووهنها حكمها الأعلى صوتا والأكثر تطرفا؛ ومؤخرا الأكثر قدرة ومغامرة على استعمال السلاح كما جرى في غزة من حركة حماس، وبيروت من حزب الله. وربما ليس صدفة نتيجة ذلك كله السهولة غير الطبيعية لتفكك الدولة في العالم العربي كما هو حادث فى الصومال والسودان والعراق ولبنان؛ وربما ليس صدفة أيضا أن الخوف الأكبر للسلطات العربية القائمة يكون من التفكك والفرقة والانقسام وانفراط الحال، فكانت الدولة المستبدة وغير الديمقراطية التي تضع بعنفها وخشونتها أول قواعد الانهيار.

القضية إذن ـ في النجاح أو الفشل ـ في جوهرها هي القدرة على بناء الدولة وتعريف هويتها وتخليقها بالمؤسسات والقواعد وحكم القانون، ومثل ذلك لا يحدث إلا من خلال الاعتدال والحصافة والحكمة والواقعية والبناء والتنمية. وفي التاريخ العربي فإن العدو الأول لكل ذلك كان التطرف واللغة الثورية والمزايدة بالدين أو بالقومية على توازنات القوى وحقائق العصر. والمدهش أنه فيما عدا حالات قليلة اهتمت بالموضوع داخل الدولة العربية، فإن الغالبية لا تزال تاركة نفسها للأحوال والرياح ومسارها واتجاهاتها. ربنا إننا لا نسألك رد القضاء، وإنما نسألك اللطف فيه ؟!