عندما يلجأ فلسطينيون إلى.. إسرائيل؟!

TT

كان المشهد قاسيا ومهينا لكل إنسان عربي ومسلم : مشهد «اللاجئين» الفلسطينيين من غزة الى اسرائيل، وهم يخضعون للتفتيش شبه عراة ومعصوبي العينين!

أهذا ما كان ينتظر مجاهدين وطنيين فلسطينيين على يد مجاهدين فلسطينيين آخرين؟ أهكذا يكون الجهاد باسم الوطنية والقومية والدين؟! وأي حجة للشعب الفلسطيني أمام الرأي العام العالمي، في الدفاع عن حقه في الحرية والاستقلال، بعد هذا الذي حصل ويحصل، في غزة، وغيرها من الاراضي الفلسطينية؟!

ليس هناك ما يضاف الى ما قيل وما يقال عن هذا النزاع بين «الاشقاء» الفلسطينيين. بين «فتح» و«حماس». عن هذه الحرب «شبه الأهلية» التي نشبت داخل الشعب الفلسطيني. وفي الوقت الذي اعترف العالم بأسره له بحقه في إقامة دولة مستقلة؟

إن ما حدث في غزة، وما قد يحدث غدا ـ لا سمح الله ـ في الضفة، انما يصب في مصلحة اسرائيل، اولا، ويضعف الدعم العالمي لقضية الشعب الفلسطيني، ثانيا. وهل تبقى للحق الفلسطيني قداسته وشرعيته، عندما يكون الشعب الفلسطيني منقسما على نفسه، مقاتلا، بل منكلا ببعضه البعض؟

قد يقول البعض ان قيادتي «فتح» و«حماس» ليستا مسؤولتين عما جرى او يجري، وانما المسؤولية تقع على اسرائيل، أولا، وعلى بعض دول المنطقة التي تتصارع على الارض الفلسطينية ايضا، وعلى «العناصر المتطرفة» غير المنضبطة. (وهذا المنطق تردد بالنسبة للأزمات التي مر بها لبنان، ايضا). القول لا يخلو من بعض الصحة. ولكن ألم تتدخل دول عربية واسلامية بين «فتح» و«حماس» للتوفيق بينهما؟ ولماذا لم يحترم اتفاق مكة الذي رعاه خادم الحرمين الشريفين، الملك عبد الله؟ ومن كان البادئ في نقض هذا الاتفاق؟ هل كان الاستيلاء العسكري على غزة، ردة فعل، كما تقول حماس؟ ام كان «انقلابا» كما تقول «فتح»؟ أم كان «مؤامرة اسرائيلية» خفية، كما يستمرئ العقل العربي الاتهام، للتنصل من المسؤولية؟

ليس سرا أن استراتيجية مقاومة «حماس» تختلف عن استراتيجية «فتح» والسلطة الفلسطينية، وانها جزء من جبهة الممانعة والرفض التي تضم التنظيمات الاسلامية المتطرفة والمدعومة من ايران، ومن سوريا. ولقد كان من الصعب التوفيق بين الستراتيجيتين، في حكومة «اتحاد وطني» تضم القوتين الفلسطينيتين الرئيسيتين، حتى ولو كان من الواضح للجميع، ان اسرائيل لن تمضي في طريق المفاوضات والسلام، طالما ان هناك عمليات مقاومة (تسميها إرهابية) ضدها.. فكيف اذا قامت الى جانبها دولة فلسطينية مقاومة تحكمها «حماس»، متزودة بالصواريخ الايرانية؟!

رد «حماس» وغيرها، من الدول وتنظيمات المقاومة الممانعة والرافضة للكيان الاسرائيلي، معروف، ولا يخلو، ايضا، من بعض المنطق، في قوله بان اسرائيل لن تسلم بالحق الفلسطيني، او حتى ببعضه، إلا تحت ضغط المقاومة المسلحة لها وتوجيه ضربات الى داخلها. غير ان هذا المنطق لا يتبناه كل الشعب الفلسطيني، ولا كل الدول العربية والاسلامية، وتعارضه الدول الكبرى والمجتمع الدولي. وكان من شأنه شق صفوف الوحدة الوطنية الفلسطينية، وتحويل قطاع غزة الى مدينة محاصرة ومهددة بالبطالة والعتمة والجوع، واضاعة فرصة دولية مؤاتية لقيام دولة فلسطينية، ناهيك بالشهداء الذين يتساقطون، حينا بنيران اسرائيلية، وحينا آخر، بنيران «أخوية».

هل كتب على الشعب الفلسطيني ان يبقى بدون وطن ودولة؟ ان يعيش بين لجوء ولجوء؟ او ان يعيش في المخيمات، على المساعدات الدولية؟ او ان ينتقل من انقسام وطني وسياسي الى انقسام آخر؟ أكلما التف الفلسطينيون حول زعيم او قائد واحد، يقود نضاله ومسيرته نحو استرداد حقوقه، نبتت او «انبتت» في وجهه احزاب وجبهات وحركات، تنخر في زعامته، وتدفع بالقضية الفلسطينية الى آفاق مصيرية جديدة ؟ وهل كتب على الشعب الفلسطيني ان يكون حقلا لكل التجارب والنزاعات السياسية والعقائدية التي تعصف بمنطقة الشرق الأوسط؟

قيل، يوما، إن الدول العربية هي المسؤولة عن نكبة فلسطين، وان على الفلسطينيين ان يتولوا قضيتهم بأنفسهم. وكان لهم ذلك. ونجح ياسر عرفات ومنظمة التحرير، في انتزاع اعتراف العالم بالحق الفلسطيني، وفي إنشاء سلطة فلسطينية معترف بها دوليا، وفي العودة، ورفاق نضاله، من المنفى الى الارض الفلسطينية. فما الذي عطل وأوقف هذه المسيرة نحو قيام الدولة الفلسطينية؟

اسرائيل، بطبيعة الحال. ولسنا بحاجة الى العودة الى الحديث عن مناوراتها، بعد اتفاق اوسلو، ولفها ودورانها، لتعطيل كل مشاريع السلام. ولكن ما كانت اسرائيل لتنجح في مناوراتها ـ ومؤامراتها، اذا شئت ـ لو كان الشعب الفلسطيني موحد الصفوف، ملتفا حول قيادته السياسية، ومقتنعا بسياسة المراحل الواقعية. لو لم يقع مثقفوه ـ كبعض المثقفين في الدول العربية والاسلامية ـ في فخ الآيديولوجيات السياسية، البراقة الشعارات، والمولدة لمزايدات سياسية وووطنية، وبالتالي لانقسامات ونزاعات داخلية، متتالية.

ان يصل الامر مع تنازع الفلسطينيين حول طريق او اسلوب تحقيق هذه الخطوة الاخيرة نحو قيام الدولة الفلسطينية، الى دفع فلسطينيين للجوء الى اسرائيل نجاة من قبضة اخوة لهم في الوطنية والهوية والدين، أمر محزن ومهين وخطير المعاني والدلالة. ويكفي لكي تدرك جميع الاطراف الفلسطينية، ولا سيما «حماس»، انه مؤشر على انحراف القضية الفلسطينية نحو وضع جد خطير لم تعرفه من قبل. وهو وضع يعطي اسرائيل فرصة جديدة للتهرب من عملية السلام، ويجعل من الشعب الفلسطيني، مرة اخرى، ضحية النزاعات الاقليمية والدولية.