العراق.. احفظوه ظلا وارفا!

TT

لعلَّ الكثيرون سيخالفونني، إذا ما رموني بما في الكنانة من سهام! لظني: أن العراق، في الجوهر، برهن وعبر عن أوج وحدته وتوحده! مع أن من المظاهر غير ذلك. أقول ذلك لسبب بسيط، وهو أن حوالي ست سنوات، مررن عجافا قاسيات، بين الدولة واللادولة، أتيح فيهنَّ لأي قرية فرصة إشهار انفصالها، لكن لا جمهور رغب، أو يرغب، في ذلك، مع أن اللاعبين في المشاعر كُثرٌ، حتى استخدمت وسائل الفتنة والتباعد بأقصى طاقاتها، وما زالت!

لقد أهمل خطباء منابر معممون، وهم يتذكرون وفاة موسى الكاظم (183هـ)، التذكير بسجايا الإمام السابع، بقدر ما ألحوا في الإثارة بما يبارك العزل الطائفي، بالإشارة إلى أتباع الكاظم العلوي وهارون العباسي، حسب ما سمى أحدهم الرشيد (ت 196هـ)، وعبر الفضائية العراقية! وهي على ما أتابعها تبدو الصوت الهادئ والصورة الجامعة. تصوروا مرَّ على الحدث 14 قرناً! وما زالت كلمات الخطباء وقنابل القتلة تُهلك الناس! هذه توغر الصدور بسُنَّية الرشيد، وتلك تقطع رقاب شيعة الإمام! كذلك، لا يجري الحديث عن مآسٍ قومية إلا بالإشارة إلى عرب قتلوا كورداً، وكورد قتلوا آشوريين وتركمانا! مع أن الفاعلين حُكام وأغوات، وكأن ليس هناك جحافل كوردية شاركت ضد الكورد أنفسهم. يلحون بتكريس التكاره، بينما مظان التعايش المريح تملأ التواريخ! أقليل من العرب قتلوا في سبيل الكورد! أقليل من السُنَّة قتلوا دفاعاً عن علويين! وبالعكس أيضاً. هناك مظان من التعايش تُعمر الأوطان، لكنها لا تضمن للزعماء القبض على الزمام، إذا لم يجذب الناس بشعارات العصبة القومية والمذهبية.

عود على بدء، مع قوة الخطاب المُمزق، ما زال النزوع إلى إسقاط الچادر الواقي، فعلاً معيباً لدى الأغلبية. إنها عاطفة التعلق بعتبة الدار الموروثة، فالكل يرى نفسه خاسراً عارياً خارجه، لا يدري ماذا سيكون عنوان دولته الفسيلة مع أن النخلة الباسقة بين يديه، ما الضمان من الضياع ومواجهة انفصالات أخرى، والدخول في أتون خلافات زعامات، وجد المواطن، من قسوتها، في سيف العدو رحمة!

يغلب على الظن، لا قيمة للعامل الخارجي في البقاء على الچادر ظلاً إذا ما قيس بالمقدمات التي لا تشجع تفتيت مكان في داخله تنوع من مختلف الأصول! وهل هناك جنس لم تطأ أرض العراق قدمه، ولم يترك بقيته: غازياً أو دارساً أو طالب عشب وماء! حتى الجذور الأفريقية والأُصول الشيشانية وجدت لها عمقاً! لهذا غدا الحديث عن دولة قومية أو دينية أو مذهبية باعثاً للتشاؤم.

أشك أن الإنكليز منعوا انفصال البَصْرة، عندما طلب نفر من الوجهاء (1921)، قبل وصول فيصل الأول (ت 1933) لمينائها بعشرة أيام، إذ لم تكن البَصْرة نفسها تشعر بانتماء لماء العراق وطينه. كذلك الحال في قولة مَنْ يردد أن جبال ووديان العراق انضمت لسهوله بضغط بريطاني، إذ لم تكن هناك وشائج جغرافيا ومشاعر. بأي الدوافع شارك أهل الشمال الحرب بالبَصْرة (1914)! حتى جاءت أهزوجة (مهوال) السماوة: «ثلثين الجنة الهادينه، وثلث الكاكه أحمد وأصحابه ...» (لمحات اجتماعية). سيُقال لمشاعر دينية، ولستُ نافياً. لكن، بما يُفسرون ما نقله شاهد عيان، الشيخ رسول الكركوكلي (ت 1824)، ونُشر الكتاب ببغداد (1830)؟! قال في «دوحة الوزراء في تاريخ وقائع بغداد الزوراء»: «لقد أثمرت المساعي، التي بذلها الأهلون والعشائر والرؤساء، ولاسيما أمراء الأكراد، الذين قدموا العرائض والالتماسات إلى المقامات العليا بيد خاصة إلى الأستانة، وصدر الفرمان البادشاهي بتعيين داود أفندي والياً على بغداد والبصرة وشهرزور وعن رتبة وزير، فكان لتعيينه رنة استحسان في سائر أنحاء العراق» (ص 275).

ليكن الحوار، الهادئ والصاخب أيضاً، تطهيراً لما تلوثت به الآصرة العراقية من كراهية، وأن يجري تحت ظلال ذلك التاريخ المشترك، فبعد السماء چادر العراق هو السقف المرفوع، وبهدهه لا ينعم الكورد بفَيْء، ولا بقية العراقيين بأفيَاء، ومَنْ يروم الطلاق».. فقد تُبلى المليحة بالطلاقِ»! بيت بليغ أرجعَ المتوكل (ت 247هـ) عن قراره باستبدال بغداد بدمشق عاصمةً(النجوم الزاهرة).

يبقى التنويه إلى استعمال مفردة الچادر لا الخيمة، ولا الصيوان، ولا «رَشمال» وسواها من لغات العراقيين، لأنها واحدة من التوافقات والمشتركات، التي أضعها على طاولة الحوار بين الكيانات. ولا أجد سوى معروف الرصافي (ت 1945) يسمي السياسي كامل الچادرچي (ت 1968) بكامل الخيام «من شبان بغداد المثقفين» (كتاب رسائل التعليقات). لربما ضيقاً من أصلها الفارسي، لكن الرصافي يعلم بأصلها التركي أيضاً! وهي جارية على ألسنة المتخاصمين حول كركوك جميعاً!

[email protected]