عندما نشبت قطعة خيار بحلقي

TT

كنا 24 شخصاً جالسين على مائدة عشاء معتبرة وشبه رسمية، وأذكر وقتها أنني كنت أرتدي عباءة مقصّبة (لزوم الشياكة) التي جبلت عليها، وكان ضيف الشرف يجلس على رأسها، وأنا أجلس بجانبه في أول الصف، بينما كان يجلس المضيف أو صاحب الدعوة على رأس المائدة المقابل.

لم تكن لي أية معرفة بضيف الشرف، وبالطبع ليست هناك أية علاقة أو استلطاف من قبلي على الأقل، والصدفة فقط هي التي أجلستني قريباً منه.

(سمّيت باسم الله) وبدأت أولا بطبق السلطة الذي أمامي، وبينما كنت منهمكاً بتأدية هذه المهمة الحيوية الحضارية، وإذا بالمضيف يبعث مع (النادل) ورقة صغيرة مطبقة إلى ضيف الشرف، وفردها الضيف وأخذ يتحسس الجيب الصغير في ثوبه، ثم نادى على (النادل) قائلا له: لقد نسيت نظارتي على الطاولة، لو سمحت اقرأ لي ماذا في الورقة وارفع صوتك لأن سمعي ثقيل. وأخذ يقرأ ما فيها ويا ليته ما قرأ.

فيقول السيد المحترم المضيف للضيف: (يا أبو فلان)، اعرف أن الشخص الجالس على يسارك (حقنة) ـ أي ثقيل دم ـ، ولكن جامله وتحدث معه قليلا، والله يعينك على (ثأثأته). المقصود (بالحقنة) وثقيل الطينة هو حضرتي.

وأريد أن ألفت نظركم أن المضيف ارتبك حالما بدأ (النادل) يقرأ ما في الورقة بصوته الجهوري، إلى درجة أنه أخذ يصيح به قائلا له: لا، لا، لا تقرأها، ولكن سبق السيف العذل مثلما يقولون (وانفجرت القنبلة). ران على المائدة صمت ثقيل إلاّ من بعض الضحكات المكبوتة من بعض المعازيم.

توقفت قطعة خيار في حلقي، ولم أستطع بلعها إلاّ بعد أن شربت وراءها نصف كوب من الماء.

نظر لي الضيف مبتسماً ابتسامة باهتة بشفقة واضحة قائلا لي وكأنه يعزيني: ولا يهمك، فالذي أرسل لي هذه الورقة، هو يريد أن يمزح معك، وكل ما جاء فيها هو (بالعكس)، ثم أردف يسألني: إلاّ صحيح ما قلت لي، الأخ اسمه إيه؟! ـ يقصدني. قلت له: اسمي (فلان الفلاني)، وفصيلة دمي: (+O Positive.)، ومقاس حذائي: (43)، ولدي ولع شديد بتعلم لعبة (الكركت).

أضفت كلماتي غير المتوقعة هذه شيئاً من التلطيف على الجو المشحون، فيما كنت أنا شخصياً (انطحن من الداخل)، ولم أدر كيف أتصرف؟!، هل أقوم من على المائدة معلناً احتجاجي؟!، هل أواصل الأكل؟!، هل أرد على كلمات المضيف بكلمات أسخف منها؟!، وأنا أعرف نفسي في مجال (السخافة) بالذات، (محترف).

ولكنني أخيراً (استخرت) ولزمت مكاني، وبدأت معزوفة الملاعق والشوك والسكاكين تتواصل من جديد، وتغير الموضوع إلى مواضيع أخرى متعددة ومفتعلة، وكلها تتجه نحوي، وأصبحت أنا حجر الزاوية، وأخذوا (يتناهشونني) مثلما تتناهش السباع الفريسة، وكل واحد منهم يتلطف بي ويجاملني، ويقهقه بمجرد أن أفتح فمي وقبل أن أتفوه بأية كلمة وكأنني قلت طرفة أو نكتة، وكان أكثرهم حماسة وثرثرة هو صاحب الدعوة الذي (يستلطفني).

كان أغلب الحضور لا أعرفهم، وفي النهاية امتلأ جيبي (بكروتهم) التي قدموها لي، وكنت أعتذر لكل من طلب كرتي إنني لا أملك (كروت)، وكنت بالفعل لا أملك ذلك، لأن لا شيء عندي أعطيه، ولا شيء عند الآخرين أرجوه.

وخرجت ولم أتصل بأي واحد منهم حتى هذه الساعة، ولا أدري ماذا قالوا لزوجاتهم عني؟!

[email protected]