المشكلة بدأت بـ«ديموقراطية غابة البنادق»

TT

لم يعد هناك أي أملٍ بـ«الحوار الوطني الفلسطيني»، حتى وإن هو استؤنف في القاهرة أو غير القاهرة في غضون اسبوع أو اسبوعين أو أكثر أو أقل، فالصدع بين فتح وحركة حماس غدا بعمق غور الأردن عند منطقة البحر الميت واحتلال «حيَّ الشجاعية» في غزة يوم السبت الماضي بالقسوة التي أُحْتِلَّ بها أثبت أن هذه الحركة متأثرة بانتصارات حزب الله «الإلهية» قد حسمت أمورها نهائياً وأنها ماضية في مخطط القضاء على منظمة التحرير وعلى السلطة الوطنية لتصبح الوريث الوحيد الذي لا شريك له ولا وريث غيره للحالة الفلسطينية كلها حتى بما في ذلك الدولة المستقلة المنشودة.

كانت معركة اجتياح حيِّ الشجاعية، الذي خرج منه الشاعر الكبير معين بسيسو ليواصل معركة الدفاع عن فلسطين والقضية الفلسطينية في بيروت وكل العواصم العربية وفي موسكو وبكين ومعظم عواصم العالم، تقليداً حرفيّاً لمعركة اجتياح حزب الله لبيروت الغربية فالهدف هو الهدف ذاته والسلاح هو ذات السلاح والمال الحلال هو المال الحلال ودعوات الولي الفقيه التي رافقت الذين اجتاحوا شوارع غزة بعنف لا مثيل له هي نفسها التي كانت رافقت الذين اجتاحوا كورنيش المزرعة وزواريب وشوارع الجزء الغربي من العاصمة اللبنانية.

الآن ازداد شعور حركة حماس بأنها هي المنتصرة وأنه من حقها أن تقبض ثمن انتصارها كما قبض حزب الله انتصاره في مبارزة «الدوحة» وفي معركة البيان الوزاري الذي لا يشبهه ولم يشبهه أي بيان وزاري لكثرة «الترقيعات» حمَّالة الأوجه فيه وهذا يجعل الحديث، حتى حديث الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى، عن استئناف الحوار الوطني الفلسطيني ورأب الصدع بين الأشقاء مضيعة للوقت فالمثل يقول: «إن الذي ضرب.. ضرب وإن الذي هرب.. هرب» وأنه لا أمل بجمع الرأسين رأس حركة المقاومة الإسلامية ورأس حركة فتح على مخدة واحدة.

كل شيىء بات منتهياً و حماس التي ذاقت طعم الإنتصار على الخصم، ليس الإسرائيلي بل الفلسطيني، أولاً بعد انقلاب يونيو (حزيران) عام 2007 وثانياً بعد معركة الشجاعية الأخيرة التي هي نسخة كربونية عن معركة اجتياح بيروت الغربية لا يمكن ان تفرط بدولة غزة حتى ولو وضعوا الشمس في يمينها والقمر في شمالها ولا يمكن ان تقبل بأي شريك لها في هذه الدولة بل وهي مصممة، كما هو واضح من خلال تهديدها المتواصل بنقل تجربتها السلطوية الى الضفة، على انتزاع موقع الرئاسة من يد محمود عباس (أبو مازن) الذي تصر على أن ولايته تنتهي في الخامس من يناير (كانون الثاني) المقبل في حين ان فتح تصر على أن نهاية هذه الولاية هي مع نهاية المجلس التشريعي أي في هذا التاريخ المشار إليه ولكن في عام 2010 وليس في عام 2009.

وهنا فإنه لا بد من الإشارة الى ان المجلس التشريعي السابق الذي لم يكن لحركة حماس أي وجود فيه كان قد اتخذ قراراً بغالبية أعضائه تقريباً بتمديد ولاية الرئيس سنة كاملة وعلى أساس ان تنتهي هذه الولاية مع نهاية ولاية هذا المجلس التشريعي الذي تنتهي ولايته في يناير (كانون الثاني) 2010 لتجري انتخابات رئاسية وتشريعية في وقت واحد لكن حركة المقاومة الإسلامية عندما سيطرت على البرلمان الفلسطيني في آخر انتخابات (تشريعية) بادرت الى إلغاء هذا القرار الى جانب قرارات أخرى كثيرة. إن قطاع غزة، الذي تحول الى «دولة ملتحية» ترفض أي وجود آخر غير وجودها، قد خرج نهائياً من يد حركة فتح التي تعيش الآن حالة ارتباك في ظل هذا الواقع وفي ظل مراوحة عملية السلام في المكان ذاته وبقاء وضع الضفة الغربية على ما كان عليه، حواجز إسرائيلية في كل مكان ومستوطنات كالنبات الشيطاني تزداد اتساعاً في كل يوم وأوضاع اقتصادية بائسة ازدادت بُؤساً على بؤس بعد هذه الأرقام الفلكية التي وصلت إليها أسعار النفط وأسعار المواد الغذائية.. وهكذا فإن عقدة حماس التي كان بالإمكان حلَّها في منتصف ثمانينات القرن الماضي عشية انطلاقتها الرسمية بالأصابع لم يعد ممكناً حلها بالأسنان والأضراس.

لقد كان خطأ فتح المبكر فادحاً فهي في البدايات بدل ان تستفيد أولاً من تجربة الثورة الجزائرية، التي وحدَّت إدارة التحرير ومنعت ظهور أي تنظيم آخر خارج إطارها، وثانياً من تجربة الجبهة القومية في اليمن الجنوبي شرعت الأبواب لكل ما هب ودب وأفسحت المجال لأنظمة الانقلابات العسكرية العربية باختراق حركة التحرر الوطني الفلسطيني وإنشاء تنظيمات مخابراتية لا تزال تشكل ظواهر دَرَنِيِّة في الساحة الفلسطينية ولا تزال تشكل عوائق وأحجار عثرة في طريق الشعب الفلسطيني ومسيرته الوطنية.

حتى قبل هزيمة يونيو (حزيران) عام 1967، التي أُعتبرت مرحلة ما بعدها الانطلاقة الثانية للثورة الفلسطينية، كانت قد نبتت على هوامش مسيرة الفلسطينيين الجديدة التي بدأت بانطلاق الرصاصة الاولى في الفاتح من عام 1965 عشرات التنظيمات الوهمية التي لم يكن لها أي وجود لا في الأرض المحتلة منذ عام 1948 ولا في الضفة الغربية التي كانت جزءاً من المملكة الأردنية الهاشمية والتي لا شك في ان معظمها كان صناعة مخابراتية عربية وغير عربية لتلغيم ظاهرة الكفاح المسلح التي ووجهت بالشكوك والمخاوف والتي سعت بعض الدول لإغراقها بالتنظيمات الوهمية منذ بدايات انطلاقها لاستيعابها والسيطرة عليها. والحقيقة أن حركة فتح، التي تشكلت وأُنشئت في الخارج وبقيت قيادتها خارج فلسطين حتى بعد احتلال عام 1967 لم تكن قادرة عل صد ظاهرة غزو أنظمة الانقلابات العسكرية للساحة الفلسطينية من خلال عشرات التنظيمات الاستخباراتية التي لا يزال بعضها قائماً ولكن في هيئة قيادات بلا قواعد وهذا جعل ياسر عرفات يرفع مرغماً شعار: «ديموقراطية غابة البنادق» مع أنه بقي يصف «الوحدة الوطنية»، التي كانت تطرح للمشاغبة على القرار الفلسطيني المستقل وتعطيله، بأنها: «وحدةُ الشَّلَلْ».

لم يكن ياسر عرفات، الذي كان يقود ثورة، لم يخطئ الذين كانوا يصفونها بأنها «ثورة المنافي»، في ظل الواقع الذي كان يعيشه وتعيشه ثورته قادراً على إغلاق الساحة الفلسطينية في وجه غزو الأنظمة والمخابرات وهذا هو الذي جعله يستقبل حركة حماس بالأحضان حتى قبل انطلاقها والسبب أنه كان يعرف أن التنظيم العالمي للإخوان المسلمين هو الذي يقف وراء هذا الوافد الجديد وأن الثورة الإيرانية التي خاب ظنها به بعدما رفض الانحياز إليها ضد التزاماته العربية هي التي أطلقت هذا التنظيم الملتحي ليكون ذراع الولي الفقيه في ساحة العمل الوطني الفلسطيني.

لقد حاول ياسر عرفات احتواء هذا الوافد الجديد لكنه لم يستطع حتى بعد انتهاء ثورة المنافي والعودة الى غزة والضفة الغربية فهذه «اللُّقمة» ولدت عصية على الابتلاع ولقد حاول أبو عمار وبخاصة بعد «انتفاضة الأقصى» في عام 2000 تبادل الأدوار مع حركة حماس للوقوف في وجه شارون واليمين الإسرائيلي لكنها لم تكتف بعدم الاستجابة لما أراده بل هي ركبت أمواج هذه الانتفاضة وحولتها من انتفاضة جماهيرية شعبية الى مواجهة عسكرية فخرجت الأمور من يد الرئيس الفلسطيني الراحل وحصل ما حصل وأصبحت العقدة التي كان بالإمكان حلها بالأصابع لا يمكن حلها حتى بالأسنان والأضراس.