الوطن ليس شخص الحاكم

TT

قال شيكسبير على لسان بروتس في مسرحية «يوليوس قيصر»: «إنني أحب قيصر ولكنني أحب روما أكثر». دائما على لساني هذه المقولة التي أراها تأكيدا على أن الحاكم ليس هو الوطن، بل إنه كان بإمكان بروتس أن يعلن «أنا أكره قيصر لكني أحب الوطن» أو «أنا أحب الوطن ومن أجل ذلك أنا أكره قيصر».. فمن هذا اللئيم الذي اخترع حكاية إذابة الوطن في شخص الحاكم؟ من هذا الذي غسل عقل الناس حتى صاروا حين ينتقد ناقد حاكما ما لبلد ما يمسكون بخناقه ضاربين رأسه بتهمة إهانة البلد ومعاداة شعبه؟

حين أعلنت عام 1980 رفضي لممارسات صدام حسين ضد الشعب العراقي، استكمالا لموقفي الرافض لكل طاغية جبار يسحق شعبه تحت نعلي غروره وتفاهاته، قالوا «تحكين على العراق؟» مع أنني كنت بموقفي ضد صدام حسين، لممارساته الوحشية، أعلن مناصرتي للشعب العراقي وولائي للوطن العراق.

لماذا تحتاج هذه البدهية إلى شرح وإفهام؟

يعاتبني قارئ، معلقا على تفسيري لقصيدة نزار قباني «الرسم بالكلمات»، متهما الشاعر نزار بأنه شتم شعب مصر وقادته. لا أذكر أن نزار قباني شتم مصر أو شعب مصر أبدا طيلة حياته، على العكس، إنني لا أذكر سوى أنه قال في قصيدة له، عقب وفاة عبد الناصر 28/9/1970، «قتلناك يا آخر الأنبياء»، وأذكر أنني غضبت وقتها أيما غضب، أولا: لأنه اعتبر عبد الناصر من الأنبياء، ثانيا: لأنه اتهمنا بقتله، ولو على سبيل أقوال المجاملة في مجالس العزاء، وكتبت في حينها مقالا نشرته مجلة «المصور» بعنوان: «لا تشتروا الشعر من الباعة الجائلين»، كان كله تعبيرا رافضا لولولة لا ضرورة لها على رحيل ديكتاتور قتلنا بالهزيمة وذبحنا بضياع الأحلام التي شيدها بالخديعة في السراب. وغضب الشاعر نزار قباني من مقالي العنيف، وكان معه الحق، فلعله كان يرسم بكلماته، وفقا لنظريتي النقدية، حالة الهيستريا التي انتابت جماهير الأمة العربية ساعة بوغتت بوفاة عبد الناصر مخلفا وراءه الزلازل التي انهارت فوق رؤوسنا تباعا.

ما علينا، الذي أستطيع أن أقرره بحق أن الشاعر نزار قباني كان شاعرا عربيا انتمى إلى الأمة العربية، كلها كلها، وانتمى، قبل كل شيء، إلى اللغة العربية واكتسى بحروفها وأبجديتها وملامحها وصارت هي الوطن الذي اضطرته الأيام أن يبتعد عن أرضه.

فمتى، بالله عليكم، متى تتوقف هذه المهاترات الماسخة التي تصر على تزوير وجه الوطن الرائع برسم صورة الحاكم فوقه؟

وبالمناسبة فإنني شاهدت حلقة، لم أكملها، من المسلسل الممل عن الشاعر، الذي تبثه الآن إحدى القنوات الفضائية، وقيل فيها إن الناقد أنور المعداوي كان أول من قدم نزار قباني حين نشر مقالا نقديا عام 1947 عن ديوانه الأول «طفولة نهد» بمجلة «الرسالة»، وهذا كلام غير دقيق لأني أعرف أن أستاذي العلامة وديع فلسطين ـ المولود في عام مولد نزار 1923 ـ هو أول من قدم الشاعر نزار قباني في القاهرة، ليس بنشر مقال نقدي عن ديوانه الأول فحسب، بل حين ساعده كذلك في تحقيق مقابلات مع شخصيات ثقافية مصرية متعددة أراد نزار قباني أن يهديها ديوانه الأول «طفولة نهد»، وكان سيد قطب من الاختيارات التي حرص نزار على مقابلتها وإهدائها ديوانه، ويذكر وديع فلسطين أن سيد قطب تحفظ على عنوان الديوان ولم يكتب عنه بالقبول أو الرفض، رغم أنه الناقد المجدد في الشعر.