من أجل عيني مهنّد!

TT

تشبه الفضيحة كل تلك الأخبار المتعلقة بالمسلسلات التركية، والتي نقرأها وكأنما هي آتية من عالم الأعاجيب والأخيلة. فهذا يطلّق زوجته لأنها أعجبت ببطل مسلسل «نور» المدعو مهند، صاحب العينين الزرقاوين والشعر الأشقر، وتلك تريد لحاجبيها ان يكونا منسابين كحاجبي لميس، وأخرى تسعى لأن تلبس تنورة دانا، وغيرها ترغب بشعر أحمر كشريفة، ونساء عربيات بالجملة بتن يعترفن بعطشهن لنسج قصص غرامية رومانسية يكون فيها الحبيب رقيقاً وحالماً دافئ العينين على الطريقة التلفزيونية التركية. وبمتابعة مسلسل «نور» يتأكد لك، للأسف، أن أحداثه قد تكون أدعى للتصديق من حلقات الفضائح والعورات الاجتماعية العربية التي كشفها وعرّاها. ولو كنّا على درجة كافية من الوعي، لتقدمنا من الأتراك بالشكر والامتنان لأنهم تمكنوا، ولو من غير قصد، أن يبينوا لنا هشاشة حالتنا وخطورتها.

ولو لم تأتنا المسلسلات التركية لجاءتنا البوسنية وإن تأخرت علينا الدنماركية ستسبقها السويسرية، والعالم يضيق ويصغر، في ما نظن بأننا نستطيع ان نعيش وراء الأبواب الموصدة دون ان يقتحمها أحد، فيما الاقتحام حاصل وغرفنا مليئة بالزوار والشركاء الذين يطلون من شاشات التلفزيونات والانترنت والهواتف، ويشاركوننا أعمارنا، ويبدلون مجرى تربيتنا لأولادنا. لم اصدق تلك الفتاة الصغيرة التي لم تبلغ الثامنة وهي تصرّ على انها تشبه «نور» بطلة المسلسل التركي الشهير، وانها الآن تبحث عن «مهند». وصبي آخر لم يبلغ العاشرة يخبرني انه يتابع المسلسل بمتعة لأنه مركب بطريقة ترضي كل المزاجات، ففيه رومانسية و«أكشن» وحكايات أطفال ودموع وأفراح، ومافيات وإطلاق نار، ومشاهد مضحكة أيضاً. ويبدو ان كل مشاهد يرى في مسلسل «نور» ما يبحث عنه، لكن بالنظر إلى كل تلك المسلسلات التي لاقت رواجاً لغاية الآن، نجد العائلة هي المحور، والعلاقات الإنسانية والأسرية هي الأساس. فمسلسل «الحاج متولي» ومثله «باب الحارة» وهما المسلسلان اللذان حصدا الشهرة الأكبر في السنوات الأخيرة، قاما أساساً على حكايات أسرية ونزاعات بينية، ولا تشذ المسلسلات التركية عن هذا المنحى. ولعل ميزة «نور» تحديداً، هي تقديمه لنموذج حياة عصرية لكنها تبقى متمحورة حول العائلة المترابطة حيث يلتف الأولاد والأحفاد حول الجد كما تلتف الأغصان على شجرة. فالمجتمع التركي يعيش أزمة هوية والمجتمع العربي أيضاً، وان يقدم «نور» قصص حب وزيجات ومغامرات، فيها من الحرية والغرام والدلال ما يغري بتقليدها، وتبقى جميعها تحت سقف بيت واحد، لهو أمر كان يبدو للمشاهد عصياً حتى الآن. فالعصرية هي قرين الفردية في الذهن عموماً، وهذا ما نراه في المسلسلات المصرية الجديدة، حيث الأسرة الصغيرة هي النواة، ولا مجال لبناء أي حكاية يحضر فيها الأخوة والأخوات وأبناء وبنات العم كشركاء حقيقيين، فما بالك بأزواج هؤلاء، هذا عدا زوجة الجد الجديدة التي تأتي بابنتها من الزواج الأول وأحفادها أيضاًَ. ونرى في المسلسل ان كل هذا عادي وضروري. وحين تعلم الأسرة ان الطلاق قد وقع بين مهند ونور نشعر وكأن زلزالاً مروعاً هزّ العائلة كلها، وتبكي والدة مهند وهي تقول ان ابنتهما (حفيدتها الوليدة الجديدة) باتت في «خطر».

صحيح أن ثمة خلافات حادة تعصف أحياناً بأفراد العائلة ومكائد وحبائل خبيثة، لكن الروح العائلية تنتصر دائماً، وهذا يرضي المتفرج العربي الذي بات يعاني من أمراض الطلاق والعنوسة والتفكك ضمن البيت الواحد، وحتى انشطارات داخل الأسر الصغيرة. وليس أدلّ على ذلك من أنباء عن بيوت تهدم في بلدان عربية عدة، نتيجة اكتشاف الزوجات لنموذج الرجل الرقيق المحب «مهند» الذي يطارد زوجته الغاضبة حتى آخر الدنيا لينال رضاها، فيما المقارنة بين ما يحدث في المسلسل وازواج الواقع تصيب بالصدمة. وهذا ذنب لا يمكن تحميله لعمل تلفزيوني بعينه بقدر ما يجب ان يتسبب في مراجعات رجالية حقيقية، مفادها ان الخشونة الزائدة، شكلاً ومضموناً، لم تعد مطمحاً أنثوياً، وأن مطالب النساء تغيرت، قبل النجم مهند، وستبقى كذلك بعده، كما تغيرت قبل ذلك مطالب الرجال وهم يكتشفون هيفا ونانسي وأليسا، ولكل من لوثة الموضات التلفزيونية حصة.

وكل هذا ليس سخيفاً أو خفيفاً، كي تعاقب وزيرة الثقافة الأردنية، نانسي باكير بأقذع الألفاظ لأنها قبلت بصورة تذكارية مع النجم مهند الذي التقته صدفة أثناء زيارة له لعمّان. فلم تفعل السيدة الوزيرة سوى الوقوف إلى جانب ممثل يعشقه نصف مواطنيها، وهي كوزيرة ثقافة من المفترض ان ترحب بضيفها، وتحترم مزاج شعبها. وتزور القصر الجمهوري اللبناني ملكات جمال وفنانات ومغنيات، ويلتقطن الصور مع الرئيس، وهذا حصل وسيحصل. وليس السياسيون غير ممثلين لشعوبهم كيفما كانت رغباتهم وخياراتهم. أما من لا تعجبه ميول شعبه ويرى فيها ما يؤرّقه فليس عليه سوى ان يسعى ويكدح ليفهم ويتمعّن ويحلل ويعالج بخطط طويلة الأمد. وبدل ان ننشغل كلنا بالخطط الاستراتيجية الإقليمية التي لم نعد ندرك لها معنى ولا مبنى، لينصرف بعضنا إلى رسم خطط استراتيجية اجتماعية، علها تكون للبشر أجدى وأنفع.

[email protected]