جمهورية سيبويه

TT

رائع أن تؤكد عروبة لبنان في الحرص الذي أبدته لجنة صياغة البيان الوزاري على تمحيص كل كلمة فيه والتحقق من محلها من الإعراب في اللغة العربية، أولا ، ومن احتمالات تعرضها للتأويل، ثانيا.

الجهد «الأكاديمي» للجنة البيان الوزاري استحق وصف رئيس «اللقاء الديمقراطي»، وليد جنبلاط، لنص البيان «بالسهل الممتنع». ولو كان سيبويه حيا اليوم لاختال زهوا بحرص اللجنة على تجنيب بيانها مطبات «الطباق والجناس» في لغة الضاد واجتيازها ـ بتحفظ ـ الامتحان اللغوي لمشكلة الدهر في لبنان: دور سلاح حزب الله في مشروع دولة في طور التكوين.

من حسن حظ اللجنة أن اللغة العربية مطواعة الى حد أتاح إرضاء الأضداد فيها واحتواء التناقضات، ولو الى حين، عبر اعتماد بند يكرس «حق لبنان بشعبه وجيشه ومقاومته في تحرير أو استرجاع مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والجزء اللبناني من قرية الغجر المحتلة والدفاع عن لبنان في مواجهة أي اعتداء والتمسك بحقه في مياهه، وذلك بكل الوسائل المشروعة والمتاحة».

بالنسبة للقارئ غير اللبناني يبدو هذا النص مجرد «تحصيل حاصل» لحق الشعوب في الدفاع عن اراضيها. إنما حسنته المبطنة تبقى في تجاوزه أدبيات الشعارات الفضفاضة وتحديده سقف المقاومة بمزارع شبعا وتلال كفرشوبا والجزء اللبناني المحتل من قرية الغجر.. فقط لا غير. إذن أصبح للمقاومة، أخيرا، سقف جغرافي محدد على مقاس لبنان لا مقتضيات الايديولوجيات الشمولية الطنانة أو الأوراق الاقليمية المخفية. ولكن من يقرأ هذه الفقرة من اللبنانيين يحتار أي مجتهد لغوي يهنئ عليها: أحزب الله على رفعه الشعب اللبناني وجيشه الى مصاف «المقاومة الاسلامية»، أم الدولة اللبنانية على قبولها بثنائية ـ ولن نقول ازدواجية ـ دفاعية واستراتيجية على قاعدة: يجوز للدولة ما يجوز لحزب الله والعكس بالعكس (رغم الفارق في العتاد والذخيرة وحتى الدوافع بين الجانبين).

ربما أخرج سيبويه لجنة البيان الوزاري من عقدة لغوية. ولكن سيبويه أعجز من ان يحل مشكلة سياسية مزمنة إسمها لبنان.

وإذا كان لا يجوز إنكار فضل سيبويه على اللبنانيين في هذه المرحلة العصيبة في تاريخهم، فإن فضله لا يتعدى تأمين الحد اللغوي الأدنى من التفاهم الوزاري.. لتأمين ثقة المجلس النيابي لحكومة الاضداد قبل ان تعود «حليمة الى عادتها القديمة» بالاقتتال.. ولكن داخل مجلس الوزراء هذه المرة ـ علما بأن استبدال ساحة قتال بأخرى، اي وسط بيروت التجاري بقاعة مجلس الوزراء في السراي الحكومي، حسنة تذكر لتشكيلة سماها الاعلام اللبناني بحكومة الوحدة الوطنية.. دون أن يتفق اللبنانيون على الوطن الذي يودون ان يتوحدوا حوله.

في هذا السياق يأخذ تحفظ خمسة وزراء على البيان الوزاري بعده الواقعي فالمطالبة باحتضان الدولة لحق اللبنانيين في تحرير او استرجاع ارضهم يفترض تسليمهم المسبق بالوطن الواحد قبل الدولة الواحدة. وبالمقابل يأتي رفض حزب الله النص على «كنف الدولة» كإطار موحد للمقاومة ـ حتى في الدولة التي يشارك فيها معززا بحق الفيتو (الثلث المعطل) على أي قرار لا يرضيه ـ منسجما مع طبيعة ولاءاته الايديولوجية التي تتجاوز الاطار الجغرافي الصغير «للساحة» اللبنانية .

لماذا المكابرة؟

المشكلة القائمة في لبنان مشكلة مزمنة تتعدى حزب الله وسلاح حزب الله وارتباطات حزب الله إلى انقسام اللبنانيين حيال المسلمات الاساسية Fundamentals)) التي عليها تبنى الاوطان. والخلاف المبدئي بين تكتلي «14 آذار» و«8 آذار» ليس، في نهاية المطاف، أكثر من ترجمة سياسية لهذا الانقسام التاريخي الذي تتقاطع فيه الولاءات الوطنية مع العصبيات المذهبية مع الاموال الخارجية (النظيفة وغير النظيفة).

في ظل هذا «الموزاييك» من الولاءات والعصبيات والمدفوعات بات التواضع في توقعات المستقبل القريب واجبا، فأقصى ما يطمح اليه اللبنانيون اليوم هو تعايش مكونات «الموزاييك» اللبناني سلميا مع خلافاتها طالما تعذر حلها في إطار مفهوم موحد للوطن.

تعزية اللبنانيين الوحيدة في هذا البيان الوزاري أن عمره من عمر الحكومة: عشرة أشهر فحسب، على أمل أن تحسم الانتخابات المقبلة «هوية» لبنان.. هذا إذا عدل القانون بحيث يخفض سن الاقتراع الى الثمانية عشرة ويعطى اللبناني «المهجر» الى الخارج حق التصويت.. وإن جرت الانتخابات بمنأى عن «قرار» السلاح غير الشرعي.