يا سارق من عيني النوم

TT

تذكرت رجلا بدويا انتقل إلى رحمة الله، وكان معنا في رحلة للخلاء تدوم من الصباح إلى ما بعد مغيب الشمس، وبعد أن تناولنا غداءنا الذي طبخناه على الحطب تحت إحدى أشجار الطلح، قام ذلك الرجل من مجلسنا، فيما بقينا نحن نتجاذب أطراف الحديث، وبعد أن تعبت أنا من كثرة الحكي والاستماع نهضت من مكاني لكي أتجول في ربوع المكان الممتلئ ببعض الأشجار والهضاب والصخور من مختلف الأحجام والألوان.

وما أن انحدرت من على ضفاف إحدى الشعاب الصغيرة، وإذا بي أشاهد ذلك الرجل البدوي منبطحاً على الأرض لا حِراك به، أصبت بصدمة وفجيعة، وأول ما خطر على بالي أن أتركه وأعود على أعقابي، ولكنني انتقدت نفسي على جبنها هذا غير المبرر إنسانياً، فأخذت أقترب منه رويداً رويداً لكي أتأكد هل ما زال على قيد الحياة، أم أنه اتّكل على الله. حاولت أن أمدّ يدي وأضعها على صدره لكي أتأكد من قلبه إذا كان ينبض أم لا؟!

ولكنني رفعتها سريعاً قبل أن تلامس صدره، وذلك تأثراً مني بما شاهدته في الأفلام من (بصمات الأصابع) عندما تكون على الضحية، وكيف أن رجال التحريات يأخذونها كتهمة.

استلقيت بجانبه وأصغيت بأذني علّها تسمع أنفاسه، ولكنني لم أسمع غير صوت الهواء الذي يتسلل بين أغصان النباتات. فما كان مني إلاّ أن أنهض سريعاً مبتعداً عنه عدّة خطوات، وأصيح بأعلى صوتي لا شعوريا قائلا على طريقة الأفلام المصرية: النجدة، النجدة، النجدة. وفزعت أكثر وكدت أولّي الأدبار هروباً، عندما شاهدت الميت يتحرك في مكانه، ثم يتثاءب ثم يفتح عينيه، وعرفت أنه كان مستغرقاً في سابع نومة، ويبدو أن صياحي قد أزعجه وأوقظه.

عندها اطمأننت، وتأسفت له، غير أنه تقبل الموضوع برحابة صدر، خصوصاً أنه لا يدري ماذا كنت أخمن، قلت له: نومة العوافي، ولكن كيف تستطيع أن تنام في هذا المكان وبهذا الشكل؟! قال لي: إن النوم لا يحلو لي إلا إذا انبطحت على (الرضم) ـ أي الحجارة ـ وهي التي تفصفص عظامي وترخي أعصابي، وكلما كانت كثيرة وخشنة، كان استمتاعي بها أكبر ونومي أعمق، قلت له: يا بختك على هذا (الفراش الوثير).

وبمناسبة الحديث عن (مراتب) النوم، ففي إحدى السنوات كنت أسير في شارع في إحدى المدن الأوروبية، ومررت بالصدفة على محل كبير مختص ببيع (المراتب)، وبما أن لديهم موسما للتخفيضات، فقد انتهجوا أسلوباً فريداً لجلب الزبائن، حيث أنهم خصصوا صالة بها لا يقل عن عشرين سريراً عليها مراتبهم، وللزبون الراغب في الشراء أن يجربها وينام عليها لمدة ساعة، إن أعجبته كان بها، وإن لم تعجبه فلا شيء عليه، فما صدقت على الله أن تأتيني هذه الفرصة، خصوصاً وقد أنهكني المشي، فدخلت مقرراً أن آخذ (تعسيلة) على الأقل لمدة نصف ساعة، غير أنني للأسف وجدت الأسرة كلها مشغولة، وهناك ما لا يقل عن أربعين (شخصاً وشخصة) ينتظرون دورهم.

وبالأمس ذكر لي أحدهم أن (فلان الفلاني) قد اشترى مرتبة بثمانين ألف دولار ـ لاحظوا أنها مرتبة وليست غرفة نوم أو حتى سريراً ـ عندها شدهت وتعجبت، فقال لي: إن هذه المرتبة هي أرخص أنواع المراتب التي تصنعها شركة سويدية تدّعي أن مراتبها هي أريح المراتب في العالم، وأن بعضها يصل سعره إلى أكثر من مائة وخمسين ألف دولار (للمرتبة الواحدة)!!

سألته: وما هو انطباع (فلان الفلاني) عن مرتبته (الرخيصة) التي اشتراها؟! قال: إنه سعيد جداً ومرتاح رغم أنه ما زال يتناول الحبوب المنومة.

عندها ترحمت على ذلك البدوي، الذي لا يداعب النعاس أجفانه، إلاّ وهو منبطح على الرضم والصخور والحجارة.

[email protected]