تركيا والإسلام وخيارات الشعوب المسلمة و(السبق السعودي)

TT

(نحن نثق بالله). عبارة مثبتة في الدولار الأمريكي، وهي عبارة إذ توحي بـ(الإيمان بالله) من حيث المبدأ، فإنها عبارة لا تزعج ولا تؤذي أحدا، ومع ذلك فليس يستبعد ولا يستغرب أن يقترح أناس (منا) أو يتمنون حذفها!!، لأن هناك من الناس من يرتاع ويلتاع و(يشمئز) إذا سمع إنسانا في محاضرة أو فضائية يبدأ حديثه بـ(بسم الله الرحمن الرحيم)!..

وهذه ـ على كل حال ـ (أزمة نفسية) تتطلب علاجا نفسيا، وطبا تربويا يغوص في أسبابها وعللها الدفينة ويقدم العلاج الملائم.. نعم هي أزمة (سيكلوجية) لا علاقة لها بالعقل، ولا بالعلم، ولا بالتقدم الحضاري، بدليل أن الحضارة العربية الاسلامية الضخمة المتنوعة النتاج في كل حقل (من الفلك الى الدورة الدموية الثانية الى تطوير النباتات والمحاصيل الزراعية).. هذه الحضارة بدأت وسارت تحت اسم الله.. وبدليل أن عبارة (نحن نثق بالله) المثبتة على الدولار الأمريكي لم (تعطل) التقدم العلمي والحضاري الأمريكي، ولم تسبب للعلماء الامريكيين المبدعين (كآبة نفسية) شلت أدمغتهم عن مواصلة الابتكارات، ولا سيما انها عبارة مرفودة بمثلها في وثيقة الاستقلال الأمريكي، والدستور الأمريكي، ففي هاتين الوثيقتين الأمريكيتين نقرأ عبارات: (نشهد الله الأعلى)، و(نعاهد الله).

والسطور الآنفة مَفْتحٌ وَفْقٌ للمقال، بل هي جزء منه: تقدّمته في الزمان والمكان.

منذ قليل التهبت الساحة التركية ـ الفكرية والسياسية ـ بقضية حظر حزب العدالة والتنمية التركي بتهمة (تهديد النظام العلماني بأفكار واجراءات إسلامية).. ثم انحصر الموقف أو الحكم في توجيه إنذار للحزب بعدم التمادي في سلوكه الإسلامي، ولم تبلغ المحاولة مبلغها في حظر الحزب.

وفي ظرف الزمان ذاته ـ تقريبا ـ: أجرت مؤسسة (غالوب) الأمريكية للرأي استطلاعا للرأي تبين من خلاله أن 74% من الأتراك يطالبون بأن يكون للشريعة الإسلامية دور في سن القوانين، وان 69% منهم يطالبون بأن تكون شريعة الإسلام مصدرا من مصادر التشريع في بلادهم.. وفي واقع الأمر فإن هذا الاستطلاع عمد الى التعرف على (الاتجاهات والخيارات العامة) للشعوب المسلمة تجاه (الشريعة الإسلامية).. ففي الاستطلاع ذاته نقرأ: ان أكثر من 90% من المصريين يؤيدون تحكيم الشريعة الاسلامية وتطبيقها لأنهم مقتنعون بأنها تكفل حقوق الإنسان، وتوفر العدالة الاقتصادية والاجتماعية، كما نقرأ في الاستطلاع: أن 90% من الايرانيين يرون انه ينبغي أن يكون للشريعة دور في التشريع والتقنين في إيران.. ويجمل الاستطلاع النتيجة العامة التي توصل اليها بقوله: «إن الأغلبية الساحقة من شعوب الدول الثلاث تؤيد تقنين الشريعة الإسلامية».

نحن ـ من ثم ـ أمام منظومة من الوقائع والحقائق والأرقام ينبغي التعامل معها بعلم.. وموضوعية.. وانتباه.. ووعي اجتماعي وفكري وسياسي واستراتيجي وحضاري وتاريخي.. وليس من العقل، ولا العلم، ولا منهج التعامل المعرفي مع الحقائق والوقائع والأرقام: تجاهل هذا الواقع (الشعبي)، ولا شتم الشعوب بسبب خياراتها هذه، ولا الاشمئزاز من (اسم الله) ـ تبارك اسمه وتقدس في علاه ـ، فذلك كله لا يبدل الواقع ولا يستطيع أن يلغيه.

إن العاصفة التي عصفت في تركيا لم يكن سببها (تحكيم الشريعة الإسلامية) بالمفهوم الشامل للتطبيق. فالاسلام في تركيا هو (إسلام بلا شريعة) ـ إن جاز التعبير ـ، بل هو إسلام (جزئي) انحصر في تحفيظ القرآن، والصلوات.. والأذكار العامة وستر المرأة شعرها وصدرها وساقيها ـ باختيارها ورضاها ـ.. ومع ذلك اهتاج (المشمئزون) من الصلاة: «أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى».

والأتراك ليسوا (زاهدين) في تطبيق الشريعة (كما تبين في نتائج الاستطلاع)، ولكنهم (عاجزون) عن التطبيق، وهو عجز معتبر ومقدّر دينا وشرعا، بمعنى أن الشريعة نفسها ترفع الحرج من غير القادرين على التطبيق.

ان النجاشي ـ ملك الحبشة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ، قد أسلم، ولكنه لم يحج ولم يُقم أحكام الشريعة، وهو (معذور) في ذلك.. يقول ابن تيمية:«الواجب مشروط بالقدرة، وتسقط الواجبات مع العجز، كحال النجاشي حين أسلم وعجز عن اظهار ذلك في قومه، كما انه لم يحج، ولم يحكم بالشريعة».. وهذه الفسحة المديدة المريحة إنما توكد سماحة الإسلام وواقعيته ومرانته في تكييف الظروف ومراعاتها، وتوكد تشريعه الناصع جدا في رفع الحرج عن المسلمين (الصادقين) ـ على كل مستوى ـ الذين خوطبوا بمثل قول الله جل ثناؤه:«وما جعل عليكم في الدين من حرج».. وليست هذه الفسحة للذين يعبدون الله على حرف، ولا للذين يتهربون من تطبيق الإسلام وهم قادرون على ذلك:«وإذا دعوا الى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون».. وليست الفسحة لأولئك الذين (يتطيرون) من الأخذ بالاسلام:«وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا».. وليست هذه الفسحة لـ(المدلسين) الذين يقدمون الحالة التركية (العاجزة) ـ بعذرها ـ كنموذج ينبغي أن يقلده العالم الإسلامي، وكأنهم يقدمون حالة العاجز عن الصيام في رمضان: نموذجا يقلده سائر القادرين على الصيام!

ولئن وكدت الوقائع والخطوط البيانية للأرقام: ان الشعوب المسلمة مقبلة ـ بحب ـ على ربها، مشتاقة الى شريعة الهها ومولاها، صائرة ـ باقتناع ووعي ـ إلى خيارها الإسلامي، هذه الشعوب لن تعدم (السوابق) المعاصرة في هذا المجال الحيوي.

أوليس من (التوفيق الكوني والديني): أن تسبق المملكة العربية السعودية الى (خيار الشريعة الإسلامية ومنهجها) في هذا العصر: العاصف بالتيارات المعادية للدين، المشمئزة من شعائره وشرائعه؟

1 ـ بلى.. انه (توفيق كوني) لأن القدر الأعلى اصطفى بلاد الحرمين لتكون جغرافيتها (محضن) مقدساته العظمى، وأولها البيت الحرام الذي اختاره الله يوم خلق السموات والأرض: محضن فضل من المشيئة الأزلية، أي ليس بناء على طلب أو دعاء، لأن الإنسان لم يوجد يومئذ، ولم يكن ـ من ثم ـ طلب ولا دعاء!

2 ـ وبلى.. انه (توفيق ديني شرعي) لأن هذه البلاد التي اصطفيت لتكون محضنا لأعظم بيت وضع لعبادة الله وحده: لا يلائمها إلا (منهج شرعي)، يوائم بين قدر الله الكوني وإرادته الدينية الشرعية، ولذا اقترن تعظيم البيت وتحريمه باسلام الوجه لله، وبالاهتداء بهدي شريعة القرآن:«إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين، وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين».

3 ـ رُفد التوفيقان ـ الكوني والديني ـ (والرفد من الله كذلك) بـ(جغرافيا بشرية) أو بيئة سكانية خالصة للاسلام. فمواطنو السعودية مسلمون 100%. ومن هنا كان الملك عبد العزيز ـ وهو يبني دولته على الإسلام ـ يستصحب مفاهيم ثلاثة رئيسة:

أ ـ الاصطفاء الإلهي لهذه البلاد لتكون محضن البيت الحرام.

ب ـ واختيارها لتكون متنزل الرسالة الخاتمة، وبيئة تطبيقها الأول.

ج ـ أما المفهوم الثالث فهو ان الملك البصير الموفق كان يعبر عن (خيار الشعب السعودي المسلم) في نهضته الحضارية ذات الجذر الإسلامي.. ومن التوفيق الفريد أيضا: ان هذه المفاهيم الثلاثة الكبرى باقية مطردة في الزمن، أي لم تمت بموت الملك عبد العزيز، بل جاء من المعطيات ما يعززها بحسبانها سبقا فكريا وسياسيا وحضاريا تنبهت اليه الشعوب المسلمة من بعد إذ طفقت تحن الى شريعة الإسلام.. ثم هي مفاهيم قام عليها نظام اجتماعي وسياسي ماثل. ومن ثم يُعد الاستمساك بهذه المفاهيم ـ على كل مستوى سعودي ـ معيارا دقيقا للوفاء والولاء للنظام الاجتماعي والسياسي الذي بناه الملك عبد العزيز.

استحضر هذا، واعرض عن الذين ينازعون في هذه الحقائق: قياسا على بلدان أخرى يُزاحم فيها الاسلام بتيارات معادية للدين أو بلدان لم تنجح في الجمع بين الدين والدنيا في نهضتها العلمية والثقافية والسياسية والاجتماعية والحضارية.