مسلمون أجسامهم في بريطانيا وعقولهم في دنيا الأوهام

TT

فسر المفكر الاميركي، المصري المولد، الدكتور مأمون فندي، سبب كراهية الاوروبيين للعرب والمسلمين الوافدين بدورهم في تغير نمط الحياة الليبرالي، وهو تفسير سليم، ولكن استأذنه في اضافة ملاحظات ما كانت تخطر ببال علماء النفس الاجتماعي والساسة قبل عقد واحد.

الاقتصاد كان دائما السبب الاول لكراهية السكان الاصليين للمهاجرين في درجات. التوجس من الاجنبي xenophobia ورد الفعل بانعزالية المهاجرين، مؤديا الى social disintegration تفكك المجتمع في طبقية عرقية ببقاء غالبية المهاجرين في قاع السلم الاقتصادي، او انعزالهم في دائرة اقتصادية مغلقة وكلاهما جسر للعنصرية racism وتجريدها لـ«الآخر» من الانسانية dehumanisation ـ كمفهوم تنفذ التيارات القومية الفاشية منه للمجتمع باستمالة المتضررين من وجود الاجانب. وتستغل تناقض ثقافتهم وممارساتهم للذوق السائد (كذبح خراف الاضاحي في الشارع او اطلاق آذان الفجر من مكبرات الصوت واغلبية الناس نيام) لتروج خرافة انتماء المهاجرين لسلالات دون الأدمية sub-human كمبرر لحرمانهم من حماية القانون.

او لم يصدق الالمان خرافات الحزب القومي الاشتراكي النازي بمسؤولية اليهود عن تدهور الاقتصاد فاهدروا دم مواطنين المان صالحين منتجين يدفعون الضرائب وانتهوا باحراق ستة ملايين انسان.

تضخم التيارات العنصرية من حوادث فردية اضرت بمصالح اشخاص حقيقيين من «السكان الاصليين» لتصبح شائعات تصدقها الاغلبية اثناء الازمات الاقتصادية. الوافدون يسرقون وظائف ابناء البلد لقبولهم بأجور منخفضة وترهق اسرهم ـ بثقافة كثرة الاطفال ـ خدمات ومرافق تدهورت ميزانيتها لكساد الاقتصاد.

تقليديا تعامل المجتمع البريطاني مع الظاهرة بتلقائية التطور الطبيعي بثقافته البريطانية الهادئة دون هلع عام يؤدي لاجراءات مناقضة لثقافة المجتمع الليبرالي.

الحوادث الفردية عالجها القضاء في اطار تقاليد حماية الفرد وحريته وممتلكاته. وبالجدل السياسي الهادئ نجح التيار المناهض للعنصرية بتأسيس مفوضية المساواة ـ العنصرية، وباقناع البرلمان بقوانين تجرم التمييز العنصري كمخالفة جنائية. ومع غياب قانون كامل مكتوب كما هو الحال في مصر او فرنسا مثلا، ادت محاكمات المخالفات العنصرية الى سوابق تخضع الوصف العنصري لاحكام الاعتداء باللفظ والقذف.

لعب عامل الزمن دوره في انصهار الثقافات الوافدة في الثقافة القومية البريطانية (لان رقيها جذب المهاجرين الذين لم يجبرهم احد على الحضور) كعلاج ناجح لظاهرة كراهية الوافدين.

تعود الانجليزي على التعامل مع البقال الباكستاني وصاحب المطعم الآسيوي (الكاري الهندي يعتبر طبقا بريطانيا حسب دليل السياحة الرسمي)، والممرضة الافريقية والطبيب المصري.

جيل مواليد المهاجرين منذ الستينات والسبعينات تحدثوا الانجليزية كأهل البلاد بلا لكنة اجنبية، فتناقصت الاحتكاكات العنصرية مع مطلع الثمانينات لدرجة ان اي اعتداء عنصري بالقول او التفرقة في الوظائف تحول الى خبر صحافي.

العقد الاخير شهد رواجا اقتصاديا غير مسبوق، فلماذا تصاعدت كراهية الوافدين؟

للدقة انحصرت الكراهية في المسلمين والعرب الذين كانوا موضع ترحيب لاسباب مالية؛ وتصاعدت درجتها مع صعود نجم الحزب القومي البريطاني BNB المصوغ على نمط الحزب النازي الهتلري.

فاز الحزب لاول مرة بعشرات المقاعد في انتخابات المجالس البلدية، وقام بترويع الناخب من سياسة الاحزاب الكبيرة (المحافظين والعمال والاحرار) «التي سمحت بغزو الثقافة الاسلاموجية (الاسلام السياسي)». ورغم اشمئزازي من كل ما يمثله الحزب القومي فالحق ان ادبياتهم لم تنتقد المسلمين وانما الاسلاموجية «كآيديولوجية شمولية شريرة تهدد حرية الفرد».

حرية الفرد في اختيار نمط الحياة من ملبس ومأكل، مفتاح فهم ثقافة البريطاني الذي فوجئ بثقافة لا يكتفي فيها رجل دين بالتدخل في حياة الفرد محددا ما يأكله ويشربه وزي زوجته، بل ايضا يتدخل ـ رغم انه غير منتخب ـ في شؤون الحكومة أيضاالمنتخبة ديمقراطيا بافتائه في السياستين الداخلية والخارجية.

ويجيء زائر اجنبي بلقب «دكتور» و«شيخ» يصفه اعلام اليسار «بمعتدل» وبزعيم روحي للمسلمين، ليدعو لضرب الزوجات (وهي جريمة في القانون) ويبرر القتل الجماعي بقنبلة قاتل انتحاري سماه «شهيدا» مثواه الجنة، وهي جريمة بصرف النظر عن جغرافية موقع ارتكابها.

وحتى رحيله قبل ثلاثة اعوام، كان الدكتور السير زكي بدوي، عميد المعهد الاسلامي قلقا من انعزالية سجن المسلمين انفسهم في ثقافات مجتمعات هجروها الى المجتمع البريطاني. ودعا لثقافة اسلام المكان (اي الاسلام البريطاني مثلما هناك اسلام اندونيسي يختلف ثقافيا عن الاسلام الموريتاني في تقاليد كشهر رمضان مثلا).

وانتقد السير زكي عيش المسلمين في جزر متفرقة في بحر المجتمع البريطاني، قطع اليساريون في الحكومة جسورها باصرارهم على التعددية الثقافية multiculturalism بدلا من الانصهار في بوتقة ثقافية واحدة تفرز اسلاماً بريطانياً له خصوصياته الثقافية الملائمة للمجتمع والزمان والمكان.

مروجو آيديولوجية الشر ـ اغلبها افكار سيد قطب المنظر الآيديولوجي لجماعة الاخوان ـ تستروا بظلام الجهل ليهبطوا جزر المسلمين، المتمثل في بحث الجيل الجديد عن انتماء قبلي آيديولوجي وجدوه في حلقات اسلامجوية عقدها أبو حمزة، وأبو قتادة، وأبو عنف، وأبو ارهاب.

الشوفير الذي اوصلني من الـ«بي بي سي» هذا الاسبوع راقب تصريحاتي على الشاشة في بهو الاستقبال، عن ظهور رادوفان كراديتش امام المحكمة الجنائية الدولية. شاب في نهاية العشرينات، لو اغمضت عينيك عن ذقنه الذي يصل طوله عشر بوصات، تسمعه انجليزيا قحا بلهجة وركشير قلب انجلترا ومسقط رأس شكسبير. اجابته على سؤالي اين يحب ان يعيش, بينت انه لا اقارب له خارج بريطانيا اي لا فرصة واقعية له في «الانتماء» لكيان سياجتماعي آخر.

كان غاضبا لان المحكمة لم تقبض على الرئيس جورج بوش ورئيس الوزراء السابق توني بلير بتهمة «قتل» (لاحظ كلمة قتل وليس التسبب في القتل) خمسة ملايين عراقي، وعجز عن تسمية مصدر معلوماته وارقامه، واعترف بانه لم يزر العراق او يقابل عراقيين وبجهله بالعربية.

الشوفير نموذج لجيله من البريطانيين المسلمين. يستصغر نفسه كفرد له حرية يحميها قانون امته البريطانية في خيارات البحث المستقل عن المعلومات، فاسلم عقله لخرافات امام جاهلٍ ـ يستمد سطوته من فرض ذهنيتي التحريم والتحليل ـ ففسر تعبير «الامة الاسلامية» وهو مجازي لا جغرافي او قانوني بانه وطن يذود عنه. شب المسكين اسير ثقافة منعزلة «حرمت» على ذهنه التفكير المستقل ليفرق بين وهم صوره امام مسجده، وبين واقع ملموس نسي انه يوفر له الرزق والحياة المحترمة وحماية القانون، فنظر اليه باحتقار وكراهية كشفتهما نبرات صوته.

العاملون في قطاع الخدمات من هذا النوع هم نقطة الاحتكاك اليومي بين «المسلمين» وغيرهم من البريطانيين، وفي ذلك اجابة اضافية لسؤال الدكتور فندي عن سر الكراهية.