كركوك.. فشل التعايش وطغيان القوموية

TT

من الصعب الاعتقاد بأن الكتل السياسية العراقية ستجد، في نهاية الأمر، حلولاً جذرية لتسوية مشكلة كركوك أو هويتها المتعرضة للاسقاطات القوموية والشعارات العنصرية، التي عبرت عن نفسها قبل أيام، هذه المرة، ضمن مظاهر التظاهرات الحاشدة الكردية والعربية والتركمانية بكركوك وضواحيها أو من خلال بعض الممارسات والاشتباكات والاعتداءات المتبادلة على المواطنين والمقرات الحزبية في المدينة. وبعد أن تفجر هذا الكم الهائل من السجالات والصراعات الحامية بسبب تمرير قانون انتخابات مجالس المحافظات في 22 يوليو (تموز) وتداعيات هذا القانون ومخلفاته، ليس من المستغرب أن نلاحظ أن مشكلة كركوك تتعقد بشكل غير معهود وبدأت تأخذ أبعاداً خطيرة تهز العملية السياسية في العراق برمتها، بل أصبحت تشكل على المدى البعيد تهديداً للأسس التي قامت عليها سياسياً بعض العلاقات والتحالفات أو التفاهمات والتكتلات، بل تؤول تداعاتها الى المزيد من التوتر والتأزم أو التفتت والتشتت ليس في صفوف التيارات والكتل السياسية فحسب وإنما في نسيج المجتمع العراقي أيضاً. وما يلفت في الأحداث الأخيرة المتعلقة بكركوك هو أنها تسببت أيضاً في رفع رصيد الشعارات المتطرفة التي تنادي بها جماعات متعصبة داخل كل مكون من مكونات الشعب العراقي، والتي توظف الأزمات عادةً لمصالح حزبية أو مزايدات سياسية أو تنظيرات طائفية، وتستغل معظم الخلافات والاختلافات أو سبل التعاطي معها، تغذية منها لنظامها الأحادي في تسمية الأحداث والأهداف أو تعزيزاً لموقعها ونفوذها أو تدعيماً لقاموسها العنصري في تفسير المواقف والمرامي، وفي النهاية تفخيخ العراق بمفخخات النعرات الطائفية والعرقية في أكثر من منطقة وأرجاء معمورة.

وما يأسف عليه كل مواطن عراقي، كرداً كان أو عربا أو أي مكون آخر، هو أن كركوك، هذه المدينة التي تعتبر الآن عراقاً مصغراً في نظر الكثير من متابعي ما يجري ويحدث فيها من أحداث وصراعات أو تجاذبات سياسية وعرقية، لم تر منها، أجيال من الكرد والعرب والتركمان، أن تشهد استقراراً حقيقياً يرسي مفهوم المواطنة أو يلغي آثار التمايزات القومية والطائفية فيها أو يحقق لسكانها اندماجاً ثقافياً واجتماعياً أكثر مما هي عليه، ولا كانت متمتعة سياسياً وديمغرافياً بحياة آمنة سياسية منذ أن اكتشفت فيها ثروات طبيعية هائلة من البترول صارت للدولة العراقية فيما بعد العمود الفقري لاقتصادها، بل شروطاً من شروط هيمنتها على المجتمع وصهره في جسد الدولة. وقد تفاقمت هذه المحنة أكثر حينما باشرت الأنظمة العراقية على أثر ذلك وبمراحل مختلفة منذ ستينات القرن الماضي بممارسة سياسات التطهير العرقي بحق سكانها. كما وأصبح من قدر كركوك أن تعاني من عدم الاستقرار حتى في السنوات الخمس الماضية التي شهد فيها المشهد العراقي أحداثاً كبيرة وتحولات سريعة انعكست أغلبها مباشرة على خارطة موازين القوى السياسية والاجتماعية للمدينة وأحدثت فيها تغيرات دراماتيكية كان أبرزها عودة مكوناتها المختلفة لأول مرة الى المسرح السياسي بعد عقود طوال من الإقصاء والاستبعاد أو تعرضهم لسياسات الترحيل والتعريب، ومن ثم تقاسمهم، هذه المكونات، بعد سقوط النظام السابق في 9/4/2003 للسلطات وإدارة مرافق الدولة فيما بينهم، من خلال الاحتكام لما أفرزتها الاستحقاقات الانتخابية وبالتالي صراعاتهم على هوية المدينة والسيطرة عليها.

مع الأحداث الأخيرة وبسبب طغيان الخطابات القومجية وتقهقر روح المواطنة أو تشدد الأطراف في المواقف والخيارات أو السياسيات والسجالات، خيبت كركوك آمال الكثيرين ثانية في أن تصبح نموذجاً مشجعاً لاختبار مبادئ التعايش والتواصل، وأن تصير ـ بما كان متوقعاً منها نظراً لتركيبتها الفسيفسائية وحراكها السياسي والاجتماعي دائماً ـ مركزاً من مراكز تأقلم وتفاعل المجتمع العراقي مع شروط الانتقال من الحكم السلطوي الى حكم متوجه نحو القيم الديمقراطية خاصة بعد أن أوقعت في فخ أجندات غير وطنية وتأثرت بصراعات حزبية وعرقية متهورة فضلاً عن تدخلات أقليمية، وكذلك بعد أن أخفقت الكتل السياسية الأساسية في بغداد في أن تأخذ دروساً وعبرا من تاريخ الصراعات الحاصلة بسبب مشكلة كركوك ومكامن هذا التاريخ وفهم أحداثها ومجرياتها تجنباً لتكرارها، وذلك دون أن ننتبه الى أن التاريخ، كما يقول الفيلسوف الفرنسي ريمون آرون، وبعكس ما قاله ماركس، معرض لأن يعيد نفسه كلما عجزنا عن فهمه وأخفقنا من تجاوز أسبابه وعوامل تكراره.

اليوم بخلاف كل ما يقال، يلاحظ المراقب في مشكلة كركوك أنها ليست، في الأساس، مشكلة تمرير غير قانوني لمادة معينة أو قانون ما ولا في عدم التزام حكومة المالكي بتنفيذ المادة 140 من الدستور الدائم التي يطالب بها الكرد، ولا تكمن في سيطرة هذه الأخيرة على مرافق الدولة في المدينة أو (تكريدها)، من خلال استيطان! أكراد من تركيا وإيران فيها، كما تتصور ذلك قوى سياسية من التركمان والعرب دون إثبات ذلك، فكل هذه المشاكل والخلافات لم تصل الى طريق مسدود بل يمكن الإشتغال عليها أو التفاوض بشأنها أو إيجاد الحلول لها في النهاية سيما إذا ما وجد إرادة حقيقية لذلك وبالتالي ليست إلا بمثابة معوقات ظرفية خاضعة للتغيير والتبديل، ولكن أصل المشكلة تكمن في أنها بنوية المصدر، أي تنبع من بواطن العقول وتجسّد نفسها بنزعات قوموية عند بعض من التيارات السياسية العراقية، وقد باتت هذه النزعات والميول تهدف مع كل أزمة الى تقويض الأسس الدستورية والديمقراطية معاً لحلحلة المشاكل والنزاعات. والمثال الحي على ذلك هو أن بعضا من القوى الكردية لا تريد أن ينفتح بوجه الديمقراطية التوافقية كنظام متبع في دول عديدة من العالم، لتسوية مشكلة تقاسم السلطات في كركوك بينما تطالب الآخرين بالأخذ بها في إدارة الدولة. وسبب ذلك معروف تماماً، هو أن الكرد، في نظر هذه القوى، يشكل الأغلبية في كركوك حتى وإن كانت المدينة غير مدعومة بتجانس قومي يوفق منطق الأغلبية في الحكم والسلطة، وفي المقابل نجد أن قوى تركمانية وعربية تسعى هي الأخرى وبشعارات وممارسات عنصرية أو بالاستقواء بقوى إقليمية، تجريد الكرد من أي حقوق تاريخي له في المدينة معتبرين أن كركوك مدينة تركمانية، على ما تدعي ذلك أبرز التنظيمات التركمانية، ألا وهو الجبهة التركمانية، أو مدينة عربية، كما نرصد ذلك في خطاب بعض من التيارات العربية المتطرفة التي تستند لإحصاءات أجريت في فترة حكم النظام السابق (1968-2003)، أي بعد أكثر من ثلاثة عقود من ممارسة حزب البعث لسياسات التطهير العرقي والتغيير الديمغرافي بحق المدينة وسكانها الأصليين، بل أسوأ من ذلك هو أن هذه القوى تطالب حتى بإلغاء المادة 140 من الدستور العراقي الدائم التي تمثل قاعدة دستورية لحل الأزمة. والسبب في هذا الرفض المتبادل للسبل والأفكار المطروحة لإنهاء الصراع أو إيجاد حلول وسطية بين المواقف المخالفة والمتباينة لا يكمن في أنه لم يعد هناك أية مخارج للأزمة أو إرادة لتجاوز المأزق الذي وقع فيه ملف كركوك، وإنما المسألة تتعلق بتنامي هذه الاتجاهات القومجية في التفكير والتدبير دون أن تنتبه اليها الكتل السياسية وتحد من سطوتها، ومن البداهة أن تقوم القومجية، من حيث الفكر، على الاستعلاء والاصطفاء أو العنصرية ونفي الآخر واستبعاده وعدم الاعتراف به، وتتغذى من حيث الواقع، من الأزمات السياسية والتحديات التي تفرضها شروط الانتقال الى الحكم الديمقراطي.. وهذه هي محنة كركوك ومأزقها الحقيقي.

* كاتب وباحث كردي عراقي