البيت الأبيض ودبلوماسية الأشهر الخمسة الأخيرة

TT

على غرار ما فعلته إدارة الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون عام 2000، تسعى إدارة الرئيس الحالي جورج بوش إلى فعل الشيء نفسه عام 2008.

في الشهور الخمسة الأخيرة المتبقية من زمن ولايته، دعا كلينتون إلى قمة كامب ديفيد بين ياسر عرفات وإيهود باراك، آملا أن ينهي ولايته بإنجاز تاريخي في سياق القضية الفلسطينية. وفي الشهور الخمسة الأخيرة المتبقية من زمن ولايته، يكلف جورج بوش وزيرة خارجيته كونداليزا رايس أن تشرف على محاولة إنجاز تاريخي يسجل له في ختام ولايته، ومن خلال اتفاق تسعى إلى عقده في سياق القضية الفلسطينية أيضا.

ثمة فارق شكلي بين الحدثين مع أن المضمون هو نفسه. ففي كامب ديفيد 2000 تواجه الرئيس الأميركي مع الرئيس الفلسطيني مع رئيس وزراء إسرائيل. أما في مفاوضات واشنطن الحالية، فالمتواجدون هم: وزيرة الخارجية الأميركية، ووزيرة خارجية إسرائيل، ورئيس الجانب الفلسطيني المفاوض. فهل سيستطيع مسؤولو الصف الثاني هؤلاء أن ينجزوا ما لم يستطع إنجازه مسؤولو الصف الأول أولئك؟

وثمة فارق آخر بين الحدثين. كان كلينتون يسعى إلى حل نهائي ودائم للقضية الفلسطينية وللصراع العربي ـ الإسرائيلي، أما كونداليزا رايس فإنها تسعى إلى «وثيقة تفاهمات»، تتواصل المفاوضات بعدها إلى حيث لا ندري. وكان باراك أعد نفسه للمفاوضات، وبلور صيغة إسرائيلية شاملة تقبل أو ترفض، وكان واثقا من نفسه ومن صفقته إلى حد الاعتقاد بقدرته الفائقة على خداع الرئيس الأميركي والرئيس الفلسطيني، أما تسيبي ليفني فإنها تذهب إلى المفاوضات وهي تحمل معها التصورات الإسرائيلية المكرورة التي تحدد ما تطلبه إسرائيل وتتجاهل كل ما قد يطلبه الفلسطينيون. وكان ياسر عرفات زعيما وقادرا على أن يقول الكلمة النهائية الحاسمة، بينما يدرك أحمد قريع أن عليه أن يعود إلى مراجعه ليسألها هل يقبل أم يرفض؟

تبدو هذه الفوارق بين «محاولة» العام 2000، و«محاولة» العام 2008 شكلية، ولكن من قال إن الفوارق الشكلية لا تصنع فوارق نوعية؟

أعلنت كونداليزا رايس أنها تسعى إلى «وثيقة تفاهمات»، أي إلى «اتفاق مبادئ»، أي إلى توجيهات ونقاط عامة تساعد على الوصول إلى اتفاق نهائي، أما الاتفاق النهائي نفسه فهو ليس مطروحا للبحث. ولا يشكل هذا الهدف طموحا كبيرا، ولكنه يشكل خطوة على غرار مؤتمر أنابوليس، خطوة تحدث ضجيجا كبيرا، ثم يتم عرض هذا الضجيج على الأمم المتحدة، حسبما أعلنت رايس بنفسها، ثم يتم تسجيل «إنجاز» سياسي في سجل الرئيس بوش، بحيث لا يخرج من الرئاسة في 20/1/2009 وهو يحمل لقب رجل الحروب فقط، إذ ها هو الآن رجل سلام يحتوي سجل رئاسته على إنجاز باتجاه السلام. وإذا تفاءلنا أكثر، وقلنا إن «وثيقة التفاهمات» لن تكون مجرد مبادئ عامة، وأنها ستحتوي على اتفاقات حول كل قضايا الصراع الأساسية: الأرض والحدود والقدس وعودة اللاجئين والمستوطنات والمياه حسبما يطلب الفلسطينيون ويصرون، فإن رايس نفسها هي صاحبة النظرية القائلة بإنجاز «اتفاق رف». أي اتفاق شامل، يتم إنجازه، ثم يوضع على الرف، ولا يدخل حيز التنفيذ إلا حين يتوافق الإسرائيليون عليه، وحين يدخل الفلسطينيون بيت الطاعة ويرضى عنهم الإسرائيليون. وفي كلا الحالتين، حالة «وثيقة التفاهمات» التي ستعرض على الأمم المتحدة، وحالة «اتفاق الرف» الذي لا يدخل حيز التنفيذ، فإن سقف المفاوضات وهدفها سقف متدن، سقف أقرب ما يكون إلى العلاقات العامة لا إلى الإنجاز السياسي الكبير. وبهذا تكرر السياسة الأميركية نفسها. والجامع الوحيد بين المحاولتين، في كامب ديفيد 2000 والآن، هو أن الرئاسة الأميركية تخصص الأشهر الخمسة الأخيرة من ولاية الرئيس، من أجل البت، وبسرعة، في أصعب القضايا الدولية الشائكة، قضية فلسطين، بينما يتم هدر السنوات الثماني كلها (سنوات حكم كلينتون وبوش)، في المماطلة، أو في الاتفاقات الجزئية، أو في اتفاقات اللحظة الأخيرة التي لا يملك المتفاوضون إزاءها سوى هز الرؤوس غضبا أو تعجبا أو رفضا.

ولكن ماذا لو انتقلنا من هذه المقارنات إلى الحديث عن المضمون، هل سنجد شيئا متميزا؟

لن نقول رأينا إنما سنستند إلى الوقائع.

في قضية الأرض والحدود، يقول الأميركيون والإسرائيليون إن الخلافات هنا ليست كبيرة، حتى أنه يمكن تحقيق اختراق. لماذا؟ لأن الخلاف يتركز حول حجم المساحة التي ستضمها إسرائيل إليها من أراضي الضفة الغربية، وهي حسب ايهود اولمرت رئيس الوزراء لا تتعدى 2% إلى 3%. وكذلك يتركز الخلاف حول حجم الأراضي التي ستحصل السلطة الفلسطينية عليها بالمقابل (تبادل الأراضي). أين ستكون هذه الأراضي؟ وهل ستوازي 2 ـ 3% أم أكثر بسبب النوعية؟ تبدو المسألة من خلال هذا الطرح وكأنها قابلة للبحث، ولكن حين توضع الخرائط على الطاولة، سيرى الجميع بأم العين أن ما يقال تبسيطا 2 أو 3%، يقضم من الضفة الغربية قلبها وجوهرها، بحيث لا يبقى ما قد يشكل دولة، إذ لا يبقى منها بعد ذلك سوى نتف من الأراضي المتباعدة، تتصل فيما بينها بطرق المواصلات (الأنفاق والجسور)، ولا تتصل جغرافيا. كذلك فإن ما يقال عنه تبسيطا بضم 2 أو 3% إلى إسرائيل، يشمل مدينة القدس، ويشمل مدينة القدس الكبرى التي تضم 80% من المستوطنين. وبهذا تتداخل قضية الأرض والحدود مع قضية القدس والمستوطنات، ويقال مع ذلك إن هذه القضية ليست معقدة، وأنه يمكن تحقيق إنجاز فيها. أي إنجاز؟ إن الإنجاز الوحيد هو التنازل الفلسطيني عن القدس. فهل يقدر أحد على ذلك؟

بعد خدعة التبسيط (2 أو 3% فقط)، نأتي إلى خدعة التلاعب بالكلمات في قضية عودة اللاجئين. ويقال هنا «لقد حصل تقدم في قضية اللاجئين». يقال هنا إن أميركا تضغط من أجل معادلة تقول بـ «عودة اللاجئين إلى الدولة الفلسطينية». وتقول بـ «عودة رمزية إلى «تخوم» دولة إسرائيل من خلال لم الشمل». هل تتضمن هذه المعادلة حلا ولو أوليا لقضية اللاجئين؟ حتى الجاهل لا يستطيع أن يقول ذلك. فان يعود اللاجئون إلى الدولة الفلسطينية وليس إلى وطنهم الذي طردوا منه، لا يشكل منة من أحد. ولم الشمل قضية إنسانية وليست قضية سياسية. ولم الشمل سيكون رمزيا وليس شاملا. وهو سيكون في «تخوم» دولة إسرائيل، ولا ندري ماذا تعني كلمة «تخوم» هذه. إنه تلاعب بالكلمات لا يضيف جديدا، بل هو يكرر اقتراحات قديمة رفضت، لأن إسرائيل لم تقبل أن تعلن مسؤوليتها عن جريمة طرد اللاجئين الفلسطينيين، وهي تتحدث عن «لم الشمل» لتتخلص من عبء تلك الجريمة التاريخية.

هناك تتمة فلسطينية لهذا النوع من التلاعب بالكلمات، وتصوير الأمر على أنه إنجازات. ففي لقاء الرئيس محمود عباس مع رؤساء تحرير الصحف المصرية (يوم 28/7/2008) ورد على لسانه ما يلي: قال «حققت السلطة الفلسطينية عن طريق التفاوض إنجازات لا يستهان بها: عودة 300 ألف فلسطيني إلى أراضي السلطة. وتمت تسوية ملفات عشرات آلاف آخرين كان وجودهم غير قانوني من وجهة نظر إسرائيل». وقال «يجب الاتفاق على عدد العائدين من اللاجئين ومنح الباقي تعويضات».

ونورد هذا الكلام من دون تعليق.

ولكن هناك تتمة فلسطينية لافتة. قال ياسر عبد ربه أمين سر اللجنة التنفيذية لإذاعة صوت فلسطين «إن اللقاء (في واشنطن) فرصة أخيرة قبل الإعلان عن فشل المفاوضات». وقال «تدرس السلطة خيارات بينها: وقف المفاوضات، أو إعلان دولة فلسطينية من جانب واحد. أو سحب القوات الفلسطينية من مدن الضفة وتجميعها في مدينة أريحا». وبما أن إعلان الدولة من جانب واحد غير ممكن التطبيق، وقد حاول عرفات ذلك عام 2000، ولوحق بالفيتو الأميركي حيث ذهب ليطلب الاعتراف بالدولة، فلا يبقى من الخيارات إذا سوى إنهاء المفاوضات والانسحاب إلى أريحا.

وهكذا... تتحدد الخيارات، بين خيار أميركي باتفاق رف، أو خيار فلسطيني بالانسحاب إلى أريحا. ويتم كل هذا في غياب مرجعية فلسطينية تبحث وتقرر. وحين يقال إن الفلسطينيين يطلبون إجراء انتخابات لاختيار مجلس وطني فلسطيني جديد، يعيد بناء منظمة التحرير الفلسطينية، ويضفي عليها صفة المرجعية والشرعية، من أجل البت في هذا النوع من الخيارات الاستراتيجية، تواجه هذه الاقتراحات بالرفض والاتهام، ويقال إن هناك من يسعى لإنهاء منظمة التحرير الفلسطينية.