اختلال الحجوم

TT

الجدل الذي اثير حول قانون انتخابات المحافظات، الذي تعطل إقراره وبالتالي سينعكس على تأخر اجراء الانتخابات المحلية، أشر من بين اشياء اخرى على ظاهرة يمكن وصفها باختلال الحجوم، ومؤشرات هذا الاختلال عديدة وأولها افتراض الحجم الصغير والبسيط لمسألة إجراء انتخابات محلية في العراق، الا ان الذي ضخمها هو تعامل حجوم عالمية وأممية وانشغالها بهذه الانتخابات المحلية، والدليل على ذلك، الوجود المكثف للامريكان والبريطانيين والأمم المتحدة على مدار الساعة مع الفرقاء المختلفين، لإيجاد صيغة متفق عليها، ففي اليومين اللذين سبقا الوصول الى الفشل في اقراره، يلحظ وجود سفراء امريكا وبريطانيا وممثل الأمين العام للأمم المتحدة وطواقمهم في اروقة البرلمان، يحاولون ويجهدون ويقترحون المسودات للتوصل الى تسوية، فاذا كانت المسألة عندنا لا تعدو ان تكون انتخابات محصلتها تأتي بمجلس محافظة، فانها عند الامريكان وحلفائهم الدوليين تمثل استحقاقاً مهماً لاستكمال الاطر الديمقراطية، واهميتها لكونها توسع من دائرة التمثيل والمشاركة السياسية، وخصوصاً للمناطق السنية التي هجرت العنف وفاتتها فرصة الاشتراك الفعلي في الانتخابات السابقة، وهي فضاء لجلب القوى الجديدة من صحوات وغيرها، ممن نبذت العنف لكي تتمثل سياسياً وتدير شأنها، وايضاً هي ضرورة لمعرفة اتجاهات الرأي العام، وفي ما اذا سيذهب للإتيان بقوى جديدة بدل تلك التي تلكأت او فشلت في ادائها، هذا لجهة سلامة التجربة داخل العراق، التي لم تغادر غرفة العناية المركزة للراعي الدولي. أما للشأن الأمريكي، والمفارقة هنا، فطالما كانت السياسة الخارجية تشكل الحيز الأضيق والأضعف اهتماماً في سباقات الرئاسة الأمريكية، واذ انتخابات لمحافظات عراقية تمثل مرجحاً في تنافس المرشحين للرئاسة، حيث أن عدم إجراء الانتخابات في الوقت المناسب يعطل جرعة منعشة للادارة الحالية، وما يعنيه من شكوك في استمرار قصور المشاركة السياسية لديمقراطية صنعت وتصنع بكلف عالية، بجانب ما هو أخطر من كل ذلك، وهو حدوث شرخ بين الفرقاء السياسيين العراقيين، من الممكن ان يصاحبه توظيف عنف لتليين ارادة البعض للبعض الاخر، بجانب ما قد يتيحه ذلك من ظرف مؤات تستثمره قوى العنف والإرهاب المنحسرة لكي تعيد عملياتها الدموية، وذلك سيخاطر بتقويض أمن واستقرار هش، تباهت بعد طول يأس بإنجازه الادارة الأمريكية، وهي تراهن على استمراره وتصاعده، لكي تخفض من قواتها تمهيداً لسحب جزئها الأكبر بما يستعيد أملها بإعادة استرضاء رأي عام متذمر ونافد الصبر.

الرئيس بوش من جهته، اجرى صباح الاحد الماضي، واثناء تعثر المفاوضات حول اقرار القانون اتصالات هاتفية برئيس الوزراء المالكي، ونائب الرئيس عادل عبد المهدي، وبمسعود بارزاني رئيس اقليم كردستان، وبالمشهداني رئيس البرلمان العراقي، حاثاً اياهم على الخروج باتفاق، انها مفارقة على اختلال الحجوم، حيث نذكر ان السياسيين العراقيين عندما كانوا في المعارضة كانوا يطمحون للقاء موظف في الخارجية الامريكية، واليوم يتصل بهم الرئيس الامريكي ولا تنفع مناشداته في تليين التشدد، لا شك في انهم كبروا باختيار شعبهم لهم، وانهم عادوا ممثلين لمكونات لا يسعهم التضحية بمصالحها، ولكن الإنصاف ايضاً يقتضي أن لا يزيدوا من إضعاف هذه الادارة الامريكية ويلحقوها بقائمة الرئاسات الاوربية التي اطيحت وخرجت من الحكم بسبب من حرب العراق، التي انتجت هذه الديمقراطية التي نناكفهم بأدواتها.

لا شك في ان هناك قوى سياسية وكتلا كبيرة الحجم واخرى صغيرة في المسرح السياسي العراقي، الا ان هذه الازمة الاخيرة برهنت على امكانية اختلال هذه الحجوم، فالكبيرة كانت اكثر عرضة للضغط من الامريكان ومن الامم المتحدة، لاعطاء تنازلات وللقبول بتسويات، في حين ان الصغيرة ولصغرها وتعددها وافتقارها للزعامات، فان ذلك جعلها بمنأى عن الضغط، ثم ثبت ايضاً بأن الكتل الكبيرة وان اتفقت فانها لا تستطيع ان تدفع بسياسات ،في حين ان الصغيرة وان افتقرت الى هذه القدرة، لكنها لا تعدم القابلية على تخريبها، كما انه بقاعدة التوافق تكبر الحجوم الصغيرة، فما بالك عندما يراد للتوافق ان يتسع ويقارب الاجماع فعند ذاك عليك ان ترضي اصغر المكونات والقوى فتعظم بذلك قدرتها التساومية.

اختلال الحجوم ايضاً لوحظ بين القضايا، فقانون انتخابات مجالس المحافظات، لا يعدو ان يكون قانوناً اجرائياً يتعرض لطريقة الانتخاب وشروط الناخب والمرشح واحتساب الاصوات وحجم الدوائر وضوابط الدعاية وغيرها، فان تدخل به قضية بحجم قضية كركوك، التي يقول الكرد انهم خاضوا من اجلها ولعقود ثلاثة حروبا، وهي وما بها من ادعاءات تأريخية وصراع هويات ودعاوى تغيير ديموغرافي سابقة واخرى لاحقة، وما لاثر مستقبلها على وحدة العراق، وما تستقطبه من اهتمام دول الاقليم وانشغالها بها، فلا ريب ان النتيجة تكون اختلالاً سواء لصعيد اطاحته بالمواعيد الانتخابية من اكتوبر الى ديسمبر والى الراجح للعام القادم، وبما يمنحه ذلك من اطالة عمر مجالس محافظات وادارات تعوزها الكفاءة واستمرار هدر الموارد والفرص، وتعطيل انتخابات اربع عشرة محافظة من اجل الخامس عشرة، الا انه للمقحمين مبررهم في هذا الاقحام، حيث وجدت في ذلك القوى الضعيفة في كركوك فرصتها لفتح ملف قضية طالما تم الهروب للامام منها وفضل التساكن معها وترك الزمن والمعادلات الاقليمية والدولية لحلها.

الاختلال الاخر هو غلبة المحلي والفرعي على الوطني، ورجحان الجزئي على الكلي، ففي حين نجد ان القوى السياسية هي اكثر انصياعاً للضغوط الدولية في القضايا الوطنية فانها تتصلب وتتيبس في التنازل عما يخص مكوناتها، فالكل هو منافح ومدافع ورافض للتنازل او حتى التسويات في مصالحه، باعتباره هو رب ابل قومه، أما الوطن... فله رب يحميه.