أيام فاتت

TT

في هذه الأيام التي أغرق فيها الإرهابيون والمتشددون العراق بالطائفية وتعرضوا لأبناء الطائفة المسيحية، علينا أن نتذكر كيف كان التآزر والتفاهم سائدا بين الطوائف المختلفة في أيام أزكى. من أروع ما أتذكره من ذلك حكاية سارة خاتون، الفتاة المسيحية الأرمنية.

اختلطت في عدة مراحل من حياتي بإخواننا الأرمن ووجدت نساءهم من أحرص النساء على عفتهن. وتعطينا سارة خاتون مثالا لما أقول. توفي والدها وهي في سن الشباب. وكشابة مسيحية حضرت حفلة راقصة حضرها الوالي ناظم باشا. ما أن وقعت عيناه عليها حتى هام بحبها. حاول أن يراودها عن نفسها فأبت ثم أرسل لها من يدعوها لبيته فرفضت. وأخيرا لم يجد غير أن يخطبها للزواج فردته. تحول حبه لها إلى ما يشبه الجنون. أصبح في الواقع مجنون سارة.

بعث بشرطته لبيتها ليأتوه بها غصبا عنها. فتسلقت جدار البيت وهربت والتجأت إلى القنصلية الألمانية. آواها القنصل لبضعة أيام ثم تخوف من تعكير العلاقة مع العثمانيين حلفائهم. فهربها إلى بيت نقيب بغداد. ما أن سمع الوالي بذلك حتى أرسل الجندرمة لمحاصرة البيت ومنعها من الهروب. شاع أمرها بين السكان فتظاهر المسلمون في الشوارع ينشدون الأناشيد، البستات التي نظموها ولحنوها خصيصا للمناسبة احتجاجا على الوالي وتأييدا لها. وبادرت الصحف لتتبنى قضيتها. وفي اسطنبول أثار النائب العراقي إسماعيل حقي بابان موضوعها في مجلس المبعوثان. سرعان ما أصبحت قضيتها قضية عالمية شاع أمرها حتى في أوربا. وانبرى الشاعر الزهاوي فنشر قصيدة «طاغية بغداد» قال فيها:

* رام هتكا لما تصون فتاة - كسبت في أمر العفاف اشتهارا

* بنت قوم لم يدنس العرض منهم - بقبيح هم من سراة النصارى

* يا مهين العراق هل كنت تدري - أن أهل العراق ليسوا غيارى

* اشتد الحصار على بيت النقيب وراح الوالي، مجنون سارة، يضغط عليه لتسليمها إليه. لم تعرف كيف تغادر هذا البيت والشرطة تحيط به. بيد أن سكان المحلة تجمعوا واختلقوا حادثة شوشت الشرطة وأبعدتهم عن البيت حتى تمكنت سارة من اختراق الحصار والهرب. وصلت إلى شاطئ النهر فلحقت بها الشرطة وهناك هب الفلاحون لنجدتها فهجموا بفؤوسهم ومساحيهم على الشرطة حتى خلصوا الفتاة من قبضتهم. أسرعت فالتجأت إلى القنصلية البريطانية. وبعد أيام تمكن القنصل من تهريبها إلى باخرة في طريقها إلى البصرة، تحمل العلم البريطاني. فلم يعد بيد الشرطة اختراق سيادتها. ثم نقلوها للهند. فأصبحت من أوائل من ذاق طعم الهجرة واللجوء من العراقيين.

اضطر السلطان العثماني في الأخير إلى تنحية ناظم باشا من ولايته. فكان أن ضحى بمنصبه من أجل امرأة. ولكن جنون حبه لم تهدأ سورته فلاحقها إلى الهند واضطر الإنجليز إلى إخفائها في مكان مجهول. ولم يملك مجنون سارة في الأخير غير أن يعود لبلده بخفي حنين مذموما مدحورا.

وأصبحت حكاية سارة خاتون من مآثر الشعب العراقي في نصرة المظلوم وحق المرأة بجسمها وشرفها مهما كانت طائفتها وديانتها.

www.kishtainiat.blogspot.com