التسلية

TT

هل فكر أحدكم يوماً من أن يجعل الناس حقل تجارب له؟!

يختبرهم مثلا، أو يفحصهم ويتصفحهم، وبمعنى أكثر شمولية: هل جرب أحدكم أن يجعل الناس مجرد (تسلية) له في حياته؟!

أنا أفعل ذلك في برنامجي اليومي دون ملل أو كلل، بل إن هذه الطريقة (الأفعوانية التي لا تخلو من الخبث غير المضر أحياناً) ـ إن صح التعبير ـ، أقول إن تلك الطريقة تضفي على أيامي رونقاً من الحبور المبهج، أواجه به جميع المنغصات، بل إنني بهذه الطريقة أتحايل على نفسي التي كثيراً ما تنتقدني وتقرعني وتأسف وتخجل من تصرفاتي وتجاربي تلك.. ولكن ما باليد حيلة، فذيل (الغزال) يظل أعوج مهما عدّلته.

بالأمس كنت أتعشى وحيداً في مطعم سيئ بأكله وزبائنه، ولفت نظري فتاة تقوم على الخدمة برشاقة وابتسام، كانت فتاة (معصعصة) وجميلة، وتسلط عليها بعض الرجال الغلاظ بكثرة طلباتهم وزعيقهم وانتقاداتهم.

وعندما كنت أدفع الحساب لها سألتها بلطف بالغ: ألا تسأمين من رؤية الناس يومياً وهم يأكلون ويأكلون، وبعضهم مثل هؤلاء الهمج وهم يوجهون لك أوامرهم دون مراعاة؟!

اتسعت ابتسامتها أكثر وأكثر وقالت: بل بالعكس.. إنني (أتسلى) بهم، لقد مضى عليّ بالخدمة في هذا المطعم ثلاثة أعوام، وأنظر للزبائن جميعهم وكأنهم ممثلون على خشبة المسرح، ففيهم الطيب، وفيهم النزق، وفيهم الجشع، وفيهم القرفان، وفيهم المعاكس، وفيهم الحالم مثلك.

قلت لها: شكرا على إطرائك، ولكن لا يغرك مظهري، صحيح إنني حالم ولكنني في نفس الوقت (مفترس)، فخذي حذرك وانتبهي على نفسك مني يا بنت الناس.

فقهقهت دون أن تجفل وقالت: مش معقول (!!) ما هو باين عليك.

أجبتها: اطمئني وعليك الأمان، إنني مجرد امزح و(أتسلى) عليك مثلما أنت (تتسلّين) عليّ. عندها تحولت ابتسامتها إلى (كركرة مموسقة)، وقالت وهي تعوج خصرها: كلنا في الهوا سوا.

ودعتها قائلا: يخلق من الشبه مثل (أم أربعة وأربعين).

وخرجت أدندن بمقطع من أغنية منقرضة، وفي الشارع قابلني أحد الشحاذين ومد لي يده، توقفت وأخرجت من جيبي مجموعة من العملات الصغيرة جداً والكبيرة قائلا له: اختر واحدة منها فقط، ونظر لي بشك وريبة وخوف كذلك إلى درجة أنه فكر بالهرب.

أمسكت بكتفه قائلا: لا تخف، فلست من رجال التحري ومكافحة التسول، إنني أعني ما أقول فاختر ما يحلو لك من هذه النقود واحدة لا غير، عندها اطمأن، وإذا به يلتقط من يدي أصغر العملات، فقلت له: الله يفتح عليك، الآن عرفت أنك شحاذ قنوع، ومكافأة لك على هذه القناعة، هاأنذا أقدم لك أكبر العملات. حاول أن يعتذر غير أنني (دفستها) في جيبه، وكنت في قرارة نفسي مصمماً لو أنه في البداية حاول أخذ العملة الكبيرة، فلن أعطيه شيئاً.

ومن يومها أصبح ذلك الشحاذ صديقاً لي (يتسلّى) هو عليّ، مثلما تسليت أنا عليه.

راقبوا الناس، اسمعوهم، فلدى كل إنسان معلومة لا تعرفونها، لا تبخسون أحداً، فالناس مهما تغطرسوا (مساكين).. إنني في الختام أقدم لكم نصيحة نصوحا: (تسّلوا بعضكم على بعض)، لا تكونوا كالخشب المسّندة التي ينخر فيها الدود.

[email protected]