درويش!

TT

مذ رحل المتنبي لم يأت شاعر له مثل زعامته وأكبر سوى نزار..

ومنذ رحل نزار لم يبق شاعر له الكثير من بهائه سوى محمود درويش..

ورحل درويش بالأمس فترك الكرسي شاغرا لشاعر من أجيال ـ ربما ـ لم تولد بعد..

غاب محمود درويش.. خانه القلب فتوقف عن الدفق والخفق.

رحل محمود درويش.. خدعه الدرب فأوصله سريعا إلى نهايته البيضاء.

مات الشاعر الذي توحد قلبه بالآخر، وقال:

«وأنتَ تُعِدُّ فطورك، فكِّر بغيركَ

لا تَنْسَ قوتَ الحمام

وأنتَ تخوضُ حروبكَ، فكِّر بغيركَ

لا تنس مَنْ يطلبون السلام

وأنتَ تسدد فاتورةَ الماء، فكِّر بغيركَ

مَنْ يرضَعُون الغمام

وأنت تنام وتُحصي الكواكبَ، فكِّر بغيركَ

ثمّةَ مَنْ لم يجد حيّزاً للمنام».

رحل محمود درويش غريبا، وحيدا، بعيدا في مدينة هيوستن بولاية تكساس الأمريكية القصية عن مضارب بني عشقه.. رحل بعد أن أحاطه البياض أياما، ليذكره بالكفن، فلقد عاش الشاعر أمل دنقل من قبل هذا البياض وقال:

«في غرف العمليات

كان نقاب الأطباء أبيض

لون المعاطف أبيض

تاج الحكيمات أبيض

الملاءات

لون الأسرة، أربطة الشاش والقطن

قرص المنوم، أنبوبة المصل

كوب اللبن

كل هذا يشع بقلبي الوهن

كل هذا البياض يذكرني بالكفن»

ولعله مثله كان يرى «في العيون العميقة لون الحقيقة.. لون تراب الوطن».

رحل محمود درويش المناضل، الذي يذكر حصاره في رام الله، ويقول: «لم تكن لدي طريقة مقاومة إلا أن أكتب، وكلما كتبت أكثر كنت أشعر أن الحصار يبتعد، وكانت اللغة وكأنها تبعد الجنود لأن قوتي الوحيدة هي قوة لغوية»..

رحل درويش.. فهل ثمة كتابة تقاوم؟!

[email protected]