الشمس تشرق من الشرق.. من جديد

TT

كانت اطلالة الصين على العالم، في افتتاحيات الدورة التاسعة والعشرين للألعاب الأولمبية، ذات معان حضارية عزيزة وبهيّة حطّمت خلال دقائق قلائل كل محاولات التشويه الإعلامي، التي حاولت التقليل من الانجازات الصينية، والحملات المغرضة التي تهدف في نهاية ما تهدف إلى إبقاء الحكم على الأشياء للمركزية الغربية، وإبقاء دول العالم برمتها، برسم المحكوم عليها بأحكام روح الاستعلاء الغربية ثقافياً واقتصادياً وسياسياً إذا أمكن.

ورغم محاولة البعض فصل السياسة عن الرياضة، والمال عن العراقة التاريخية، إلا أن جميع المواضيع تداخلت في مشهد واحد يحتاج إلى قراءة نوعية لعمل نوعي تكاملت أبعاده وتداخلت مراميه في انسجام مبهر وأخّاذ. فبالإضافة إلى فن العمارة، الذي استلهم حضارة الشرق في مدرج هو بحد ذاته لوحة مصباح مزخرفة أثارت دهشة المعماريين، وبالإضافة إلى التنظيم البديع والدقيق وترتيب الألوان وبدعة الألعاب النارية، كانت المواضيع التي تؤكد عراقة وأخلاق هذه الحضارة واضحة أيضاً لمن يريد أن يقرأ. فهذه هي المرة الأولى التي نرى بها المنبر على شكل رسالة تنفرد أمام المتحدث، وكذلك مسار الشعلة، كان رسالة انتهى بالشعلة المضاءة.

استحضرتُ وأنا أشاهد موضوع الرسالة كل الرسائل التي كانت ترسل بين الشرق والغرب لمناقشة أمور العالم، وتدبير مسارات حياة الشعوب، وكيف كان الإدراك عميقاً بأن الرسالة قد تنقذ العالم وقد تدمره، والشيء ذاته ينطبق على جوابها طبعاً. وقد حاول الكثيرون في هذا العالم إرسال رسائل للصين لإظهار جبروتهم وقوتهم، فأرسل محلل صيني رسالة أمته جواباً يلخص المصاف الذي وصلت إليه صين اليوم: «إن زمن الضغوط على الصين قد ولّى إلى غير رجعة، وإن أحداً في العالم غير قادر على الضغط على الصين بعد اليوم». والرسالة التي نقرؤها من خلال حضور الرئيس الأمريكي جورج بوش كأول رئيس أمريكي يشهد مثل هذا الحدث على أرض أجنبية، هي رسالة اعتراف من الدولة الأعظم بقوة الصين ومستقبل الصين كتنين اقتصادي وسياسي لا يمكن لأحد أن يتجاهله بعد اليوم.

وحين قرر الرئيس الأمريكي أن يمارس على الصين ما يمارسه على معظم الآخرين من غطرسة القوة الأعظم، فأعطى تصريحاً يقول فيه «إنه سيغتنم فرصة وجوده في بيجينغ ليبحث مع الرئيس هوجين تاو في سجل الصين في مجال حقوق الإنسان» وجد الردّ الرادع بانتظاره، قبل أن تطأ قدماه السجادة الحمراء، وقبل أن يصافح المستقبلين الرسميين. فبينما كان برفقة والده في طائرته الرئاسية متجهاً إلى الصين، أصدرت وزارة الخارجية الصينية بياناً شديد اللهجة تنتقد فيه «تدخل أي كان في شؤونها الداخلية، وأن الصين تعارض بشدة أي أقوال أو أفعال تشكل تدخلاً من دول في شؤون دول أخرى تحت عنوان حماية حقوق الإنسان والحريات الدينية». مع أن الرئيس بوش كان قد خفف انتقاده بقوله، «إن أي تغيير في الصين يجب أن يأتي بشروطها، وبما يتفق وتاريخها وتقاليدها»، لكن الردّ الصيني كان سريعاً وصريحاً ورادعاً لمثل هذه التصريحات الغربية، التي تعبر عن روح الاستعلاء الإمبريالية، التي مازالت تلوث السياسات الغربية تجاه الشعوب الأخرى. فكيف يتحدث رئيس عن حقوق الإنسان ويداه ملطختان بدماء أكثر من مليون عراقي وفلسطيني ولبناني؟ وكيف لأي أحد أن يتحدث عن حقوق الإنسان ونظامه الديموقراطي يمارس التعذيب رسمياً وفعلياً في غوانتانامو وأبو غريب ومئات السجون السرية والعلنية؟ كيف لهم أن يتحدثوا عن حقوق الإنسان وقد احتفلوا أخيراً بالذكرى السنويّة الستين لتهجير الشعب الفلسطيني وحرمانه من الحريّة وحقوق الإنسان؟

لقد عرضت الصين عالمنا الجميل في لوحة تعددت فيها الألوان والأعراق والثقافات واللغات واللباس والأزياء، التي ناقضت بشاعة محاولات توحيد الشكل واللون، الذي يعمل الغرب عليه دائماً. ولا تخشى الصين إظهار أغطية جميلة ومزركشة للرأس ولا تعتبر ذلك دليل تخلف أو سمة من سمات الإرهاب. إن تعايش الأعراق والديانات والقوميات واللغات والثقافات في الشرق، من أقاصي المغرب العربي إلى مشرقه وإلى تركيا وإيران والهند وعلى مدى آلاف السنين، هو دليل واضح على أن القيم الإنسانية كانت دائماً مشتركة وتؤكد كرامة الإنسان، وتدل على أنّ العنصرية الغربية التي تؤمن بتفوق لون على آخر أو عرق على آخر أو قيم على أخرى أو دين على آخر أو ثقافة على أخرى هي أساس بلاء البشرية، لأنها تنشر الاحتلال والحروب والاستيطان والاستعمار والتعذيب والعنف والإرهاب. لكي تشرق شمس الحرية والكرامة من جديد، علينا أن نستلهم حضارة الشرق وقيمه وأخلاقه في علاج بعض مفرزات الحضارة الغربية المادية والاستهلاكية، التي حوّلت البشر إلى سلع والمال إلى هدف الحياة الذي تُشنّ الحروب ويُقتل الملايين من الناس من أجل الحصول عليه. من هنا يأتي شعار الأولمبياد عظيماً «عالم واحد حلم واحد»، والعالم الواحد الذي يسكنه الإنسان الواحد حيث تكون إنسانيته هي القيمة العليا وليس لونه أو لباسه أو منبته الطبقي أو أملاكه وإمكاناته المادية أو دينه أو لغته.

قد يسجّل التاريخ بعد فترة قصيرة أن الدقيقة الثامنة بعد الساعة الثامنة من الثامن من آب لعام ألفين وثمانية قد شهدت الولادة الجديدة لبلد التنين العريق أمام أنظار العالم وعلى مسمع منه. فالصين موجودة منذ آلاف السنين وحضارتها تشهد للإنسان التراكم المعرفي والنوعي إلا أن هذا اليوم قد يسجل استسلام الغرب لحقيقة واضحة، وهي أنّ مركز العالم لم يعد في الغرب فقط، بل أن هناك مركزاً آخر تجاوز مرحلة التأسيس ويدخل الحلبة على خلفية حضارية وقيم نبيلة واعتبارات قد تضعه في المكان الأهم خلال زمن قياسي. وكما قال أحد الصينيين المتطوعين الذين وضعوا أربعين مليون وردة في مكان الاحتفال: «لقد انتظرنا مئة عام لنرى هذه اللحظة، لنرى بلدنا قويا»، وقد رأى الصينيون والعالم معهم الصين في عزّ صعودها وتمنى الجميع أن تكون قوية في قيمها الأخلاقية وليس فقط في إنجازاتها الاقتصادية، ولن يفيد بعد اليوم ما يكتبه أمثال أندرو جاكوب (الهيرالد تريبيون، 6 آب 2008) وغيره بأن الاحتفالات قد سببت قيوداً على السير في العاصمة الصينية، أو أن البعض يشكو في الصين وكأن الغرب قد حقّق أنموذج العيش للجميع، حيث لا فقر ولا شكوى ولا امتعاض من شيء على الإطلاق.

من ناحية أخرى بدأ المعلقون يكتبون بأنهم وجدوا بكين مدينة حديثة لا تختلف في شيء عن المدن التي قدموا منها في كندا أو نيوزيلاند، بينما كتب آخرون أن ما يربك الصين من باعة على الطرقات أو أشياء تقليدية يحاولون تجاوزها، هي بالضبط ما يجذب الأجانب القادمين من بلدان مختلفة لرؤية أحفاد التنين، الذي تجاوز مرحلة الاستيقاظ ليقف على رجليه بثبات.

قد تكون هذه المواجهة الحقيقية الأولى بين حضارة الشرق والغرب المعولم، الذي يعتبر عولمته هي المقياس الوحيد للتحضّر والحداثة. وقد تنجح الصين وينجح الشرق والغرب والبشرية معها إذا تابعت خطواتها التي افتتحتها في الثامن من آب، من خلال التأكيد على هوية الشرق الحضارية وعراقة قيمه الإنسانية وأخلاقه وروحانياته كمكون أساسي للحضارة البشرية، وكضرورة للحداثة التي اختلطت مفاهيمها والتبست هويتها على الكثيرين. جميعنا يأمل في أن تكون الرسالة التي شكّلت موضوعاً أساسياً في احتفاليات الأولمبياد رسالة جديدة نضرة للعالم تنقذه من سموم الرياح الغربية التي خلفت الدمار والخراب والاحتلال والاستيطان والحروب في منطقتنا حاملة معها الطائفية والعنصرية والتقسيم والتهجير والتعذيب لخير أمةٍ أُخرِجَت للناس، وكل ذلك من أجل نهب ثرواتنا وتدمير قيمنا وديننا وثقافتنا. والرسالة الثانية التي ينقلها هذا الحدث لنا، نحن أبناء الضاد، هو المستوى الذي وصلت إليه الصين الموحدة وهي التي بدأت مسيرتها بالإصرار على وحدة أمصارها في دولة واحدة، وليس كمعظم الدول العربية التي بدأت مسيرتها في منتصف الأربعينات أيضاً بالإصرار على تكريس التجزئة الإستعمارية. علنـّا نسأل اليوم الأسئلة الجادة ألا وهي لماذا لم يتحقق الحضور العربي إلى حدّ الآن بشكل مؤثر وفعّال على الساحة الدولية حتى في مجال الرياضة؟! على العكس من ذلك كل ما نقرأه هو عن قتل مئات العلماء النوويين في العراق، وقتل مئات أساتذة الجامعات والأطباء والمهندسين هناك وهجرة آلاف آخرين من بلدان عربية أخرى، هل لنا أن نسأل الأسئلة الجريئة، متى يعمل العرب على إعادة صياغة وجودهم الموحد في كيان دولي يحافظ على عزة الأمة وكرامتها، وينشر رسالتها موحدة وعزيزة تحمل عبق ماضيهم وأحلام مستقبل أجيالهم. نحن العرب نغبط الصين عزّتها ووحدتها، ولكن علينا أن نتعلم كيف يمكن لنا أن نحقق إنجازاً مماثلاً لأمتنا ولو بعد حين. لقد أشرقت الشمس دائماً من الشرق وكان العرب جزءاً أساسياً من هذا الإشراق وسيبقى حلمنا الواحد الأحد نحن العرب هو نفسه دوماً: دولة واحدة تضم كل العرب كالصين والهند وتركيا.. ككل أمم الأرض.

www.bouthainashaaban.com