رحيل شاعر كبير

TT

قبل أن اكتب هذه المقالة قمت بمشواري الصباحي على ضفاف نهر المارن هنا في الضواحي الباريسية، كان الجو هادئا يشبه الشعر او بالاحرى الحداد على الشعر، لم يكن أحد هناك ما عدا الحمامات والعصافير التي تطير من امامي كلما تقدمت في المشي. الوقت يوم الاحد والناس نائمون في بيوتهم ولم يستيقظوا بعد، كنت وحدي استمتع بهذه السكينة العارمة وبذكرى محمود درويش، وحتى السيدة الفرنسية التي ابتدأت أخيرا تغازلني وتتحرش بي، ويا للمفاجأة السعيدة! لم تكن هناك هذا الصباح.

الوقت مبكر جدا، الساعة السادسة فقط والضوء لم يطلع بعد.. وكنت قد اعتدت على رؤيتها يوميا وهي تمارس رياضتها المفضلة بالشورت القصير الجذاب.

اني معجب بهذه الظاهرة الجديدة: المرأة اصبحت هي التي تغازل الرجل وليس العكس! انها حدث تاريخي بالفعل. وهي ظاهرة محصورة بالمجتمعات المتقدمة الراقية: مجتمعات الحداثة او حتى ما بعد الحداثة.

سوف يقولون: عيب.. عيب.. وألف عيب! كيف يتحدث عن محمود درويش او يرثيه بهذه الطريقة المخجلة؟! ولكن من قال لكم بأني أرثيه؟ اني ارفض هذه الكلمة ولا اعترف بموت الشعراء الكبار. انهم يرحلون كالعصافير الى بلاد اخرى أكثر جمالا، الى سماء اكثر اتساعا وآفاق أرحب بألف مرة ولكنهم لا يموتون.

وأنا واثق انه سيفرح كثيرا عندما يقرأ هذه الكلمات هناك في الاعالي على ظهر سحابة بيضاء جميلة. وربما ضحك بصوت عال وقال: هذا اللعين لم يتغير ولم يتبدل! لا يزال هو.. هو.. لا يزال مهوسا بهن، بجمالهن وبالشورت القصير والافخاذ المكتزة العارية.. وبعينيه الصغيرتين الخبيثتين الثاقبتين لا تفوته شاردة او واردة ويستطيع ان يتبادل الابتسامات المشبوهة معهن في كل مكان.

سوف يضحك محمود درويش كثيرا عندما يقرأ هذه المقالة سوف يفرح بهذه الكلمات لانه كان جميلا يحب الجمال وطالما استسلم لاغراء هذه او تلك.. أعتقد ان هذه هي الطريقة الوحيدة التي كان يجب ان نتحدث عنه بها: طريقة شاعرية بعيدة عن التبخير والتبجيل أو النواح والعويل.. طريقة خفيفة، لا افراط فيها ولا تفريط.. لكن لنعد الى صلب الموضوع، ماذا أعرف عن محمود درويش؟ أشياء قليلة في الواقع. بضعة لقاءات في شقته الباريسية الراقية ابان التسعينات من القرن الماضي عندما كنا نفد للسلام عليه ولاعطائه مقالاتنا وترجماتنا من اجل مجلة «الكرمل».

كانت علاقة ثقافية محضة مع شاعر كبير تحول الى اسطورة في كل ارجاء العالم العربي. كانت متعة حقيقية ان تجلس معه لساعة او اكثر، ان تتناقشا في شؤون الادب والشعر والفكر. وكان مستمعا جيدا ولبقا ومهذبا على الرغم من كل الصورة التي شاعت عنه بانه نزق، متعجرف، شايف حاله.. لم أشعر بذلك في أي مرة. بالطبع كانت للرجل كرامته الشخصية الكبرى واعتداده بنفسه بعد ان اصبح نجم النجوم من مشرق العالم العربي الى مغربه. أحيانا كنت انظر اليه وكأنه عمر الشريف او آلان ديلون! ولا أعرف لماذا؟.. ربما لان النجومية والشهرة والاضواء والمعجبين والمعجبات والحياة المترفة الفاخرة كلها اشياء كانت تحيط به من كل الجهات، كانت هالة السحر والكاريزما الشخصية تلفه لفا.. وكان يتمتع بحضور كبير يتجاوز الوصف. وهنا سيترك فراغا. ولا اعرف من يمكن ان يحل محله.. مرة واحدة اتصل بي هو، وقد فاجأني فعلا، لانه جرت العادة اننا نحن الذين نتصل به وليس هو. كنت في غرفتي الصغيرة المتواضعة في قرية شاتني مالبري الواقعة في الضواحي الجنوبية لباريس. وكانت حرب تحرير الكويت في أوجها. وفجأة يرن التلفون. فاذا به هو على الخط يسألني عن آلامي ومشاعري في هذه اللحظة متوهما اني حزين ومحبط لاندحار صدام وهزيمته الساحقة. وعندما رأى ارتباكي وعدم تجاوبي معه الا مجاملة اختصر المكالمة بعد ان شعر بانه اتصل على العنوان الخطأ.

بعدئذ ساعدتني مقالات الكاتب الفلسطيني باسم النبريص في «ايلاف» على فهم شخصية درويش اكثر. وهو كاتب احترمه دون ان اعرفه شخصيا لاني احس بلهجة الصدق في كلامه.

يبدو ان محمود درويش كان متذبذبا باستمرار بين القطب الاسرائيلي والقطب العربي. فتارة يميل كليا الى هذه الجهة، وتارة يميل الى تلك. وهذا شيء مفهوم ولا يلام عليه. الشيء الذي يلام عليه ـ رحمه الله ـ هو اتباعه لعرفات عندما اتخذ ذلك القرار الاحمق بتأييد صدام في غزوه للكويت!! وبالتالي فارتباطه بالمؤسسة الرسمية للسلطة وبعرفات تحديدا كان مبالغا فيه ولا يليق بالمثقف ويوقعه في مواقف ديماغوجية. ولكن ربما كانت الضغوط عليه كبيرة جدا. مهما يكن من أمر فقد أيدته عندما ذهب الى حيفا للالتقاء بالجمهور العربي والاسرائيلي في آن معا. ونشرت مقالة مطولة عن الموضوع هنا في «الشرق الأوسط». وكان ذلك في الوقت الذي انتقده الكثيرون واتهموه وربما خونوه!

تحية إلى محمود درويش نجماً هوى من سماء الآداب العربية.