وفاة شاعر

TT

لكل دولة شعارات ورموز تكرس هويتها وتوضح أهدافها. والرموز تتشكل من ساسة وعلماء ورياضيين وأدباء في الغالب. وليست فلسطين استثناء من ذلك الأمر. واليوم وأبناء البلد الواحد يقتتلون ويتساقطون ضحايا الدم والغدر، لأجل الهوى الشخصي والنرجسية المجنونة، صرع المرض رمزا من رموز الكفاح الفلسطيني، اختار سلاح الكلمة وطلقات الشعر.

مات محمود درويش، مات صريع آلام قلبه، ولا أحد يعلم سبب آلام وعلل قلبه، ولكن من المرجح أنها حتما كانت لتداعيات الوضع السياسي في بلاده والمآسي التي تحياها.

لم يكن محمود درويش بعذوبة نزار قباني ولا ببلاغة أحمد شوقي ولا بشعوبية أحمد نجم، ولكنه حتما تحول الى لسان حال الشارع الفلسطيني، وباتت في كلماته أصوات حفيف شجر الزيتون ورائحة الليمون وعبق تراب الأرض. كان يكتب عن فلسطين ككتابته عن امه وعن شجر اللوز وعن الياسمين وعن الديار القديمة.

كان شاعرا للمقاومة وشاعرا للرفض وشاعرا للهوية. سخر وقت أن تطلب الموقف أن يكون ساخرا ورفع شعارات الرفض حينما طلب ذلك، وكان «سياسيا» عندما فرضت الظروف أن يكون، وساهم في كتابة أهم الوثائق الفلسطينية حينما صاغ اعلان الاستقلال الفلسطيني، الذي تم الاعلان عنه في الجزائر عام 1988.

وقد يكون في موت محمود درويش حكمة وفرصة لالتقاط الانفاس، فرصة أن يتعظ فيها الفلسطينيون ويحترموا هيبة الموت وسقوط أحد اعلامهم ورموزهم ويهابوا الارواح التي ممكن ان تزهق ويسعد بها العدو جراء خلافاتهم وصراعاتهم المعيبة والحمقاء.

رام الله، وهي المدينة التي اختارها محمود درويش لتكون مقره بعد عودته من سفره الطويل، الذي تنقل فيه بين البلاد. محمود درويش كان سفيرا لبلاده وسفيرا للحق في العودة، للحق في تقرير المصير، للحق في الاختيار، استغله الساسة الفلسطينيون وحاولوا أن يكونوا «معه» وأن يكون «معهم»، ولكنه بقي الاختيار الشعبي وترفع عن التسيس. ظل قويا بكلماته المليئة بالرمزية والتي كان دوما ما يملؤها بتعابير فلسطينية حقيقية.

مات محمود درويش وهو يشهد الكثير من المعاني الجميلة في مفهوم «النضال الوطني» و«المقاومة الشريفة» و«القضية الأقوى» تتساقط امامه الواحدة تلو الأخرى، في اخفاق اخلاقي لا يغتفر، ولا يمكن أن يقبل، ولكنها دهاليز السياسة القذرة التي سمحت للنفوس الدنيئة بأن تستغل قضية انسانية واخلاقية لصالح اهوائها ومصالحها الخاصة.

جسد محمود درويش مثل معين بسيسو من قبله وغيره، جسد المقاومة المترفعة وجسد كيف من الممكن أن يكون للكلمة دويها ووقعها، حتى أجبرت السفاح ارييل شارون على أن يقول انه يحسد الفلسطينيين على محمود درويش. الرموز تبقى شعلة للاوطان اذا رأت في افعالها ما هو قدوة وضياء لدروب الغد. ووسط الظلمة السياسية في فلسطين كلمات محمود درويش الوطنية هي شمعات على الدرب الطويل، مطلوبة للغاية.

[email protected]